الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ الناسُ إنَّ الناسُ قَدْ جَمَعُوا لَكم فاخْشَوْهم فَزادَهم إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾ ﴿فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهم سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ واللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ "الَّذِينَ" صِفَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ المَذْكُورِينَ. وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي قالَهُ الرَكْبُ مِن عَبْدِ القَيْسِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ وأصْحابِهِ حِينَ حَمَّلَهم أبُو سُفْيانَ ذَلِكَ، وقَدْ ذَكَرْتُهُ قَبْلُ، فالناسُ الأوَّلُ رَكْبُ عَبْدِ القَيْسِ والناسُ الثانِي عَسْكَرُ قُرَيْشٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: "فَزادَهم إيمانًا"، أيْ: ثُبُوتًا واسْتِعْدادًا، فَزِيادَةُ الإيمانِ في هَذا هي في الأعْمالِ. وأطْلَقَ العُلَماءُ عِبارَةَ: أنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ، والعَقِيدَةُ في هَذا أنَّ نَفْسَ الإيمانِ الَّذِي هو تَصْدِيقٌ واحِدٌ بِشَيْءٍ ما، إنَّما هو مَعْنىً فَرْدٌ لا تَدْخُلُهُ زِيادَةٌ إذا حَصَلَ، ولا يَبْقى مِنهُ شَيْءٌ إذا زالَ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ تَكُونَ الزِيادَةُ والنَقْصُ في مُتَعَلِّقاتِهِ دُونَ ذاتِهِ، (p-٤٢٣)فَذَهَبَ بَعْضُ العُلَماءِ إلى أنَّهُ يُقالُ: يَزِيدُ ويَنْقُصُ مِن حَيْثُ تَزِيدُ الأعْمالُ الصادِرَةُ عنهُ وتَنْقُصُ، لا سِيَّما أنَّ كَثِيرًا مِنَ العُلَماءِ يُوقِعُونَ اسْمَ الإيمانِ عَلى الطاعاتِ؛ وذَهَبَ قَوْمٌ: إلى أنَّ الزِيادَةَ في الإيمانِ إنَّما هي بِنُزُولِ الفُرُوضِ والإخْبارِ في مُدَّةِ النَبِيِّ ﷺ، وفي المَعْرِفَةِ بِها بَعْدَ الجَهْلِ غابِرَ الدَهْرِ، وهَذا إنَّما زِيادَةُ إيمانٍ إلى إيمانٍ، فالقَوْلُ فِيهِ إنَّ الإيمانَ يَزِيدُ ويَنْقُصُ قَوْلٌ مَجازِيٌّ ولا يُتَصَوَّرُ النَقْصُ فِيهِ عَلى هَذا الحَدِّ، وإنَّما يُتَصَوَّرُ الأنْقَصُ بِالإضافَةِ إلى مَن عَلِمَ. وذَهَبَ قَوْمٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ زِيادَةَ الإيمانِ ونَقْصَهُ إنَّما هي مِن طَرِيقِ الأدِلَّةِ، فَتَزِيدُ الأدِلَّةُ عِنْدَ واحِدٍ، فَيُقالُ في ذَلِكَ: إنَّها زِيادَةٌ في الإيمانِ، وهَذا كَما يُقالُ في الكُسْوَةِ، إنَّها زِيادَةٌ في الإنْسانِ. وذَهَبَ أبُو المَعالِي في "الإرْشادِ": إلى أنَّ زِيادَةَ الإيمانِ ونُقْصانَهُ إنَّما هو بِسَبَبِ ثُبُوتِ المُعْتَقَدِ وتَعاوُرِهِ دائِبًا، قالَ: وذَلِكَ أنَّ الإيمانَ عَرَضٌ وهو لا يَثْبُتُ زَمانَيْنِ فَهو لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِلصُّلَحاءِ مُتَعاقِبٌ مُتَوالٍ، ولِلْفاسِقِ والغافِلِ غَيْرُ مُتَوالٍ، يَصْحَبُهُ حِينًا ويُفارِقُهُ حِينًا في الفَتْرَةِ، ذَلِكَ الآخَرُ أكْثَرُ إيمانًا، فَهَذِهِ هي الزِيادَةُ والنَقْصُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا القَوْلِ نَظَرٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَزادَهم إيمانًا﴾ لا يُتَصَوَّرُ أنْ يَكُونَ مِن جِهَةِ الأدِلَّةِ، ويُتَصَوَّرُ في الآيَةِ الجِهاتُ الأُخَرُ الثَلاثُ. ورُوِيَ أنَّهُ لَمّا أخْبَرَ الوَفْدُ مِن عَبْدِ القَيْسِ رَسُولَ اللهِ ﷺ بِما حَمَّلَهم أبُو سُفْيانَ، وأنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِمْ بِالناسِ لِيَسْتَأْصِلَهُمْ، وأخْبَرَ بِذَلِكَ أيْضًا أعْرابِيٌّ، شَقَّ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ فَقالَ لَهم رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "قُولُوا: حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ"» فَقالُوها واسْتَمَرَّتْ عَزائِمُهم عَلى الصَبْرِ، ودَفَعَ اللهُ عنهم كُلَّ سُوءٍ، وألْقى الرُعْبَ في قُلُوبِ الكُفّارِ فَمَرُّوا. (p-٤٢٤)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ﴾ يُرِيدُ في السَلامَةِ والظُهُورِ في اتِّباعِ العَدُوِّ وحِمايَةِ الحَوْزَةِ، وبِفَضْلٍ في الأجْرِ الَّذِي حازُوهُ، والفَخْرِ الَّذِي تَجَلَّلُوهُ. وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ قَدْ مَضَتْ نَظائِرُهُ. هَذا هو تَفْسِيرُ الجُمْهُورِ لِهَذِهِ الآيَةِ، وأنَّها في غَزْوَةِ أُحُدٍ في الخَرْجَةِ إلى حَمْراءِ الأسَدِ وشَذَّ مُجاهِدٌ رَحِمَهُ اللهُ فَقالَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مِن قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ الناسُ﴾ إلى قَوْلِهِ: "فَضْلٌ عَظِيمٌ" إنَّما نَزَلَتْ في خُرُوجِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ إلى بَدْرٍ الصُغْرى، وذَلِكَ «أنَّهُ خَرَجَ لِمِيعادِ أبِي سُفْيانَ في أُحُدٍ إذْ قالَ: مَوْعِدُنا بَدْرٌ مِنَ العامِ المُقْبِلِ، فَقالَ النَبِيُّ عَلَيْهِ السَلامُ: "قُولُوا نَعَمْ" فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ قِبَلَ بَدْرٍ وكانَ بِها سُوقٌ عَظِيمٌ، فَأعْطى رَسُولُ اللهِ ﷺ أصْحابَهُ دَراهِمَ، وقَرُبَ مِن بَدْرٍ فَجاءَهُ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الأشْجَعِيُّ فَأخْبَرَهُ أنَّ قُرَيْشًا قَدِ اجْتَمَعَتْ وأقْبَلَتْ لِحَرْبِهِ هي ومَنِ انْضافَ إلَيْها، فَأشْفَقَ المُسْلِمُونَ مِن ذَلِكَ لَكِنَّهم قالُوا: ﴿حَسْبُنا اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ﴾، وصَمَّمُوا حَتّى أتَوْا بَدْرًا فَلَمْ يَجِدُوا عَدُوًّا، ووَجَدُوا السُوقَ فاشْتَرَوْا بِدَراهِمِهِمْ أُدْمًا وتِجارَةً، وانْقَلَبُوا ولَمْ يَلْقَوْا كَيْدًا ورَبِحُوا في تِجارَتِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ﴾» أيْ فَضْلٍ في تِلْكَ التِجارَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والصَوابُ ما قالَهُ الجُمْهُورُ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في غَزْوَةِ حَمْراءِ الأسَدِ، وما قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وغَيْرُهُ مِن أنَّ لَفْظَةَ "الناسِ" تَقَعُ عَلى رَجُلٍ واحِدٍ مِن هَذِهِ الآيَةِ، فَقَوْلٌ ضَعِيفٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب