الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِن خَلْفِهِمْ ألا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: ١٧٠] ﴿يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وفَضْلٍ وأنَّ اللهِ لا يُضِيعُ أجْرَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ والرَسُولِ مِن بَعْدِ ما أصابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أحْسَنُوا مِنهم واتَّقَوْا أجْرٌ عَظِيمٌ﴾. "يَسْتَبْشِرُونَ" مَعْناهُ: يُسَرُّونَ ويَفْرَحُونَ، ولَيْسَتِ اسْتَفْعَلَ في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى طَلَبِ البِشارَةِ، بَلْ هي بِمَعْنى: اسْتَغْنى اللهُ، واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفارُ، وذَهَبَ قَتادَةُ والرَبِيعُ وابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهم إلى أنَّ هَذا الِاسْتِبْشارَ إنَّما هو بِأنَّهم يَقُولُونَ: إخْوانُنا الَّذِينَ تَرَكْناهم خَلْفَنا في الدُنْيا يُقاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ مَعَ نَبِيِّهِمْ فَيُسْتَشْهَدُونَ فَيَنالُونَ مِنَ الكَرامَةِ مِثْلَ ما نَحْنُ فِيهِ فَيُسَرُّونَ لَهم بِذَلِكَ، إذْ يُحْصِلُونَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم (p-٤٢١)يَحْزَنُونَ، وذَهَبَ فَرِيقٌ مِنَ العُلَماءِ -وَأشارَ إلَيْهِ الزَجّاجُ وابْنُ فُورَكٍ- إلى أنَّ الإشارَةَ في قَوْلِهِ: ﴿بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا﴾ [آل عمران: ١٧٠] إلى جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، أيْ: لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ في فَضْلِ الشَهادَةِ، لَكِنَّ الشُهَداءَ لَمّا عايَنُوا ثَوابَ اللهِ وقَعَ اليَقِينُ بِأنَّ دِينَ الإسْلامِ هو الحَقُّ الَّذِي يُثِيبُ اللهُ عَلَيْهِ، فَهم فَرِحُونَ لِأنْفُسِهِمْ بِما آتاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ، ويَسْتَبْشِرُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأنَّهم لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ، و"ألّا" مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، التَقْدِيرُ: بِأنْ لا خَوْفٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلَ اشْتِمالٍ. ثُمَّ أكَّدَ تَعالى اسْتِبْشارَهم بِقَوْلِهِ: "يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ" ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى بِقَوْلِهِ: "وَفَضْلٍ" فَوَقَعَ إدْخالُهُ إيّاهُمُ الجَنَّةَ الَّذِي هو فَضْلٌ مِنهُ لا بِعَمَلِ أحَدٍ، وأمّا النِعْمَةُ في الجَنَّةِ والدَرَجاتُ فَقَدْ أخْبَرَ أنَّها عَلى قَدْرِ الأعْمالِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ وجَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: "وَإنَّ اللهَ" بِكَسْرِ الألِفِ مِن "أنَّ"، وقَرَأ باقِي السَبْعَةِ وجُمْهُورُ العُلَماءِ: "وَأنَّ اللهَ" بِفَتْحِ الألِفِ، فَمَن قَرَأ بِالفَتْحِ فَذَلِكَ داخِلٌ فِيما يُسْتَبْشَرُ بِهِ، المَعْنى: بِنِعْمَةٍ وبِأنَّ اللهَ، ومَن قَرَأ بِالكَسْرِ فَهو إخْبارٌ مُسْتَأْنَفٌ. وقَرَأ عَبْدُ اللهِ "وَفَضْلٍ واللهُ لا يُضِيعُ". وقَوْلُهُ تَعالى: "الَّذِينَ اسْتَجابُوا" يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "الَّذِينَ" صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى قِراءَةِ مَن كَسَرَ الألِفَ مِن "أنَّ"، والأظْهَرُ أنَّ "الَّذِينَ" ابْتِداءٌ وخَبَرُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: "لِلَّذِينَ أحْسَنُوا"... الآيَةِ. فَهَذِهِ الجُمْلَةُ هي خَبَرُ الِابْتِداءِ الأوَّلِ. والمُسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ والرَسُولِ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَ النَبِيِّ ﷺ إلى حَمْراءِ الأسَدِ في طَلَبِ قُرَيْشٍ والتَظاهُرِ لَهُمْ؛ وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا كانَ في يَوْمِ الأحَدِ وهو الثانِي مِن يَوْمِ أُحُدٍ «نادى رَسُولُ اللهِ ﷺ في الناسِ بِاتِّباعِ المُشْرِكِينَ، وقالَ: " لا يَخْرُجَنَّ مَعَنا إلّا مَن شاهَدَنا بِالأمْسِ"» وكانَتْ بِالناسِ جِراحَةٌ وقَرْحٌ عَظِيمٌ، ولَكِنْ تَجَلَّدُوا ونَهَضَ مَعَهُ مِائَتا رَجُلٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ حَتّى بَلَغَ حَمْراءَ الأسَدِ، وهي عَلى ثَمانِيَةِ أمْيالٍ مِنَ المَدِينَةِ، وأقامَ بِها (p-٤٢٢)ثَلاثَةَ أيّامٍ، وجَرَتْ قِصَّةُ مَعْبَدِ بْنِ أبِي مَعْبَدٍ الَّتِي ذَكَرْناها، ومَرَّتْ قُرَيْشٌ، وانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى المَدِينَةِ، فَأنْزَلَ اللهُ تَعالى في شَأْنِ أُولَئِكَ المُسْتَجِيبِينَ هَذِهِ الآيَةَ، ومَدَحَهم لِصَبْرِهِمْ. ورُوِيَ أنَّهُ خَرَجَ في الناسِ أخَوانِ وبِهِما جِراحَةٌ شَدِيدَةٌ وكانَ أحَدُهُما قَدْ ضَعُفَ، فَكانَ أخُوهُ يَحْمِلُهُ عُقْبَةً ويَمْشِي هو عُقْبَةً. ورَغِبَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ إلى النَبِيِّ ﷺ في الخُرُوجِ مَعَهُ فَأذِنَ لَهُ، وأخْبَرَهم تَعالى أنَّ الأجْرَ العَظِيمَ قَدْ تَحَصَّلَ لَهم بِهَذِهِ الفَعْلَةِ، وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "إنَّها غَزْوَةٌ".»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب