الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَما أصابَكم يَوْمَ التَقى الجَمْعانِ فَبِإذْنِ اللهِ ولِيَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وقِيلَ لَهم تَعالَوْا قاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالا لاتَّبَعْناكم هم لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أقْرَبُ مِنهم لِلإيمانِ يَقُولُونَ بِأفْواهِهِمْ ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ واللهُ أعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ﴾ الخِطابُ بِقَوْلِهِ تَعالى: "وَما أصابَكُمْ" لِلْمُؤْمِنِينَ، والجَمْعانِ هُما عَسْكَرُ النَبِيِّ ﷺ وعَسْكَرُ قُرَيْشٍ يَوْمَ أُحُدٍ، ودَخَلَتِ الفاءُ في قَوْلِهِ: "فَبِإذْنِ اللهِ" رابِطَةً مُشَدِّدَةً، وذَلِكَ لِلْإبْهامِ الَّذِي في "ما" فَأشْبَهَ الكَلامُ الشَرْطَ، وهَذا كَما قالَ سِيبَوَيْهِ: الَّذِي قامَ فَلَهُ دِرْهَمانِ، فَيَحْسُنُ دُخُولُ الفاءِ إذا كانَ القِيامُ سَبَبَ الإعْطاءِ، وكَذَلِكَ تَرْتِيبُ هَذِهِ الآيَةِ، فالمَعْنى إنَّما هُوَ: وما أذِنَ اللهُ فِيهِ فَهو الَّذِي أصابَ، لَكِنْ قَدَّمَ الأهَمَّ في نُفُوسِهِمْ والأقْرَبَ إلى حِسِّهِمْ. والإذْنُ: التَمْكِينُ مِنَ الشَيْءِ مَعَ العِلْمِ بِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَلِيَعْلَمَ" مَعْناهُ: لِيَكُونَ العِلْمُ مَعَ وُجُودِ المُؤْمِنِينَ والمُنافِقِينَ، أيْ مُساوِقِينَ لِلْعِلْمِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ ولا يَزالُ. واللامُ في قَوْلِهِ: "لِيَعْلَمَ" مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ (p-٤١٥)فِي آخِرِ الكَلامِ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿نافَقُوا وقِيلَ لَهُمْ﴾ هي إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ وأصْحابِهِ الَّذِينَ انْصَرَفُوا مَعَهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، وذَلِكَ أنَّهُ «كانَ مِن رَأْيِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ أنْ لا يَخْرُجَ إلى كُفّارِ قُرَيْشٍ، فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالناسِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي قَدْ ذَكَرْناهُ، قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ: أطاعَهم وعَصانِي، فانْخَزَلَ بِنَحْوِ ثُلُثِ الناسِ، فَمَشى في أثَرِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرامٍ الأنْصارِيُّ أبُو جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ فَقالَ لَهُمُ: اتَّقُوا اللهَ ولا تَتْرُكُوا نَبِيَّكُمْ، وقاتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ أوِ ادْفَعُوا، أو نَحْوَ هَذا مِنَ القَوْلِ، فَقالَ لَهُ ابْنُ أُبَيٍّ: ما أرى أنْ يَكُونَ قِتالٌ، ولَوْ عَلِمْنا أنْ يَكُونَ قِتالٌ لَكُنّا مَعَكم. فَلَمّا يَئِسَ مِنهم عَبْدُ اللهِ قالَ: اذْهَبُوا أعْداءَ اللهِ، فَسَيُغْنِي اللهُ رَسُولَهُ عنكُمْ، ومَضى مَعَ النَبِيِّ ﷺ فاسْتُشْهِدَ.» واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى قَوْلِهِ: "أوِ ادْفَعُوا"، فَقالَ السُدِّيُّ وابْنُ جُرَيْجٍ وغَيْرُهُمْ: مَعْناهُ: كَثِّرُوا السَوادَ وإنْ لَمْ تُقاتِلُوا، فَيَنْدَفِعُ القَوْمُ لِكَثْرَتِكُمْ، وقالَ أبُو عَوْنٍ الأنْصارِيُّ: مَعْناهُ: رابِطُوا، وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الأوَّلِ، ولا مَحالَةَ أنَّ المُرابِطَ مُدافِعٌ، لِأنَّهُ لَوْلا مَكانُ المُرابِطِينَ في الثُغُورِ لَجاءَها العَدُوُّ، والمُكَثِّرُ لِلسَّوادِ مُدافِعٌ وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ: رَأيْتُ يَوْمَ القادِسِيَّةَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ الأعْمى، وعَلَيْهِ دِرْعٌ يَجُرُّ أطْرافَها وبِيَدِهِ رايَةٌ سَوْداءٌ، فَقِيلَ لَهُ: ألَيْسَ قَدْ أنْزَلَ اللهُ عُذْرَكَ؟ قالَ: بَلى، ولَكِنِّي أُكَثِّرُ المُسْلِمِينَ بِنَفْسِي، ورُوِيَ أنَّهُ قالَ: فَكَيْفَ بِسَوادِي في سَبِيلِ اللهِ. وذَهَبَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو: "أوِ ادْفَعُوا" إنَّما هو اسْتِدْعاءُ القِتالِ حَمِيَّةً، لِأنَّهُ دَعاهم إلى القِتالِ في سَبِيلِ اللهِ، وهو أنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هي العُلْيا، فَلَمّا رَأى أنَّهم لَيْسُوا أهْلَ ذَلِكَ، عَرَضَ عَلَيْهِمُ الوَجْهَ الَّذِي يَحْشِمُهم ويَبْعَثُ الأنَفَةَ، أيْ: أو قاتِلُوا (p-٤١٦)دِفاعًا عَنِ الحَوْزَةِ، ألا تَرى أنَّ قُزْمانَ قالَ: "واللهِ ما قاتَلْتُ إلّا عَلى أحْسابِ قَوْمِي"، وألا تَرى أنَّ بَعْضَ الأنْصارِ قالَ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمّا رَأى قُرَيْشًا قَدْ أرْسَلَتِ الظَهْرَ في زُرُوعِ قَناةٍ قالَ: "أتُرْعى زُرُوعُ بَنِي قَيْلَةَ ولَمّا نُضارِبْ"؟ وكانَ النَبِيُّ ﷺ قَدْ أمَرَ ألّا يُقاتِلَ أحَدٌ حَتّى يَأْمُرَهُ بِالقِتالِ، وكَأنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَرامٍ دَعاهم إلى هَذا الأمْرِ العَرَبِيِّ الخارِجِ عَنِ الدِينِ والقِتالِ في سَبِيلِ اللهِ. وذَهَبَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ قَوْلَهُ: "أقْرَبُ" مَأْخُوذٌ مِنَ القُرْبِ ضِدِّ البُعْدِ، وسَدَّتِ "اللامُ" في قَوْلِهِ: "لِلْكُفْرِ" و"لِلْإيمانِ" مَسَدَّ "إلى". وحَكى النَقّاشُ أنَّ قَوْلَهُ: "أقْرَبُ" مَأْخُوذٌ مِنَ القَرَبِ -بِفَتْحِ القافِ والراءِ- وهو الطَلَبُ، والقارِبُ طالِبُ الماءِ، ولَيْلَةُ القَرَبِ لَيْلَةُ الوِرْدِ، فاللَفْظَةُ بِمَعْنى أطْلُبُ، واللامُ مُتَمَكِّنَةٌ عَلى هَذا القَوْلِ. وقَوْلُهُ: "بِأفْواهِهِمْ" تَأْكِيدٌ، مِثْلُ "يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ". وقَوْلُهُ: ﴿ما لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ﴾ يُرِيدُ ما يُظْهِرُونَ مِنَ الكَلِمَةِ الحاقِنَةِ لِدِمائِهِمْ، ثُمَّ فَضَحَهم تَعالى بِقَوْلِهِ، ﴿واللهُ أعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ﴾ أيْ: مِنَ الكُفْرِ وعَداوَةِ الدِينِ، وفي الكَلامِ تَوَعُّدٌ لَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب