الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مَنَّ أنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مَنَّ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ﴿أوَلَمّا أصابَتْكم مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أنّى هَذا قُلْ هو مِن عِنْدِ أنْفُسِكم إنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ اللامُ في "لَقَدْ" لامُ القَسَمِ، و"مَنَّ" في هَذِهِ الآيَةِ مَعْناهُ تَطَوَّلَ وتَفَضَّلَ، وقَدْ يُقالُ: مَنَّ بِمَعْنى كَدَّرَ مَعْرُوفَهُ بِالذِكْرِ، فَهي لَفْظَةٌ مُشْتَرَكَةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مِن أنْفُسِهِمْ" مَعْناهُ: في الجِنْسِ واللِسانِ والمُجاوَرَةِ، فَكَوْنُهُ مِنَ الجِنْسِ يُوجِبُ الأُنْسَ بِهِ وقِلَّةَ الِاسْتِيحاشِ مِنهُ، وكَوْنُهُ بِلِسانِهِمْ يُوجِبُ حُسْنَ التَفْهِيمِ وقُرْبَ الفَهْمِ، وكَوْنُهُ جارًا ورُبِيًّا يُوجِبُ التَصْدِيقَ والطُمَأْنِينَةَ، إذْ قَدْ خَبَرُوهُ وعَرَفُوا صِدْقَهُ وأمانَتَهُ، فَبُعِثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: في نَسَبِ قَوْمِهِ، وكَذَلِكَ الرُسُلُ. قالَ النَقّاشُ: لَيْسَ في العَرَبِ قَبِيلَةٌ إلّا وقَدْ ولَدَتْ رَسُولَ اللهِ ﷺ مِن قِبَلِ أُمَّهاتِهِ إلّا بَنِي تَغْلِبَ (p-٤١٣)لِنَصْرانِيَّتِهِمْ. والآياتُ في هَذِهِ الآيَةِ، يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِها القُرْآنُ ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِها العَلاماتُ، والأوَّلُ أظْهَرُ. و"يُزَكِّيهِمْ" مَعْناهُ: يُطَهِّرُهم مِن دَنَسِ الكُفْرِ والمَعاصِي. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: مَعْناهُ: يَأْخُذُ مِنهُمُ الزَكاةَ، وهَذا ضَعِيفٌ. و"الكِتابَ": القُرْآنُ، و"الحِكْمَةَ" السُنَّةُ المُتَعَلَّمَةُ مِن لِسانِهِ عَلَيْهِ السَلامُ. ثُمَّ ذَكَرَ حالَتَهُمُ الأُولى مِنَ الضَلالِ لِيَظْهَرَ الفَرْقُ بِتَجاوُرِ الضِدَّيْنِ، و"قَبْلُ": لَفْظَةٌ مَبْنِيَّةٌ لِما تَضَمَّنَتِ الإضافَةَ، فَأشْبَهَتِ الحُرُوفَ في تَضَمُّنِ المَعانِي فَبُنِيَتْ. ثُمَّ وقَفَ تَعالى المُؤْمِنِينَ عَلى الخَطَإ في قَلَقِهِمْ لِلْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِمْ، وإعْراضِهِمْ عَمّا نَزَلَ بِالكُفّارِ، وعَرَّفَهم أنَّ ذَلِكَ لِسَبَبِ أنْفُسِهِمْ. والواوُ في قَوْلِهِ: "أوَلَمّا" عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلى جُمْلَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْها ألِفُ التَقْرِيرِ عَلى مَعْنى إلْزامِ المُؤْمِنِينَ هَذِهِ المَقالَةَ في هَذِهِ الحالِ. والمُصِيبَةُ الَّتِي نالَتِ المُؤْمِنِينَ هي قِصَّةُ أُحُدٍ وقَتْلِ سَبْعِينَ مِنهم. واخْتُلِفَ في المِثْلَيْنِ اللَذَيْنِ أصابَ المُؤْمِنُونَ فَقالَ قَتادَةُ والرَبِيعُ وابْنُ عَبّاسٍ وجُمْهُورُ المُتَأوِّلِينَ: ذَلِكَ في يَوْمِ بَدْرٍ، قَتَلَ المُؤْمِنُونَ مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ سَبْعِينَ وأسَرُوا سَبْعِينَ، وقالَ الزَجّاجُ: أحَدُ المِثْلَيْنِ: هو قَتْلُ السَبْعِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، والثانِي: هو قَتْلُ اثْنَيْنِ وعِشْرِينَ مِنَ الكُفّارِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَهو قَتْلٌ بِقَتْلٍ. ولا مَدْخَلَ لِلْأسْرى في هَذِهِ الآيَةِ، هَذا مَعْنى كَلامِهِ، لِأنَّ أسارى بَدْرٍ أُسِرُوا ثُمَّ فُدُوا، فَلا مُماثَلَةَ بَيْنَ حالِهِمْ وبَيْنَ قَتْلِ سَبْعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. و"أنّى" مَعْناها: كَيْفَ؟ ومِن أيْنَ؟ ثُمَّ أمَرَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَلامُ أنْ يَقُولَ لَهُمْ: هو مِن عِنْدِ أنْفُسِكم. واخْتَلَفَ الناسُ كَيْفَ هو مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ ولِأيِّ سَبَبٍ؟ فَقالَ الجُمْهُورُ مِنَ المُفَسِّرِينَ: لِأنَّهم خالَفُوا رَسُولَ اللهِ ﷺ في الرَأْيِ حِينَ رَأى أنْ يُقِيمَ بِالمَدِينَةِ ويَتْرُكَ كُفّارَ قُرَيْشٍ بِشَرِّ المَحْبِسِ، فَأبَوْا إلّا الخُرُوجَ حَتّى جَرَتِ القِصَّةُ. وقالَتْ طائِفَةٌ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن عِنْدِ أنْفُسِكُمْ﴾ إشارَةٌ إلى عِصْيانِ الرُماةِ وتَسْبِيبِهِمُ الهَزِيمَةَ عَلى المُؤْمِنِينَ. وقالَ الحَسَنُ وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: بَلْ ذَلِكَ لَمّا قَبِلُوا الفِداءَ يَوْمَ بَدْرٍ، وذَلِكَ أنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: «لَمّا فَرَغَتْ هَزِيمَةُ المُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ جاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ قَدْ كَرِهَ ما يَصْنَعُ قَوْمُكَ في أخْذِ الأسارى، وقَدْ أمَرَكَ أنْ تُخَيِّرَهم بَيْنَ أمْرَيْنِ: أنْ يُقَدِّمُوا الأسارى فَتَضْرِبَ أعْناقَهُمْ، أو يَأْخُذُوا الفِداءَ، عَلى أنْ (p-٤١٤)يُقْتَلَ مِن أصْحابِكَ عِدَّةُ هَؤُلاءِ الأسارى. فَدَعا رَسُولُ اللهِ ﷺ الناسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهم فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، عَشائِرُنا وإخْوانُنا، بَلْ نَأْخُذُ فِداءَهم فَنَتَقَوّى بِهِ عَلى قِتالِ عَدُوِّنا ويُسْتَشْهَدُ مِنّا عِدَّتُهُمْ، فَلَيْسَ في ذَلِكَ ما نَكْرَهُ، قالَ: فَقُتِلَ مِنهم يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعُونَ رَجُلًا.»
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب