الباحث القرآني

(p-٣٩٩)قوله عزّ وجلّ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كالَّذِينَ كَفَرُوا وقالُوا لإخْوانِهِمْ إذا ضَرَبُوا في الأرْضِ أو كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ واللهُ يُحْيِي ويُمِيتُ واللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ نَهى اللهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ عَنِ الكَوْنِ مِثْلَ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ في هَذا المُعْتَقَدِ الفاسِدِ، الَّذِي هو أنَّ مَن سافَرَ في تِجارَةٍ ونَحْوِها ومَن قاتَلَ فَقُتِلَ لَوْ قَعَدَ في بَيْتِهِ لَعاشَ ولَمْ يَمُتْ في ذَلِكَ الوَقْتِ الَّذِي عَرَّضَ فِيهِ نَفْسَهُ لِلسَّفَرِ أو لِلْقِتالِ، وهَذا هو مُعْتَقَدُ المُعْتَزِلَةِ في القَوْلِ بِالأجَلَيْنِ، وهو نَحْوٌ مِنهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "لِإخْوانِهِمْ" هي أُخُوَّةُ نَسَبٍ، لِأنَّ قَتْلى أُحُدٍ كانُوا مِنَ الأنْصارِ، أكْثَرُهم مِنَ الخَزْرَجِ، ولَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنَ المُهاجِرِينَ إلّا أرْبَعَةً، وصَرَّحَ بِهَذِهِ المَقالَةِ -فِيما ذَكَرَ السُدِّيُّ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما- عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ المُنافِقُ وأصْحابُهُ، وقِيلَ: بَلْ قالَها جَمِيعُ المُنافِقِينَ، ودَخَلَتْ "إذا" في هَذِهِ الآيَةِ وهي حَرْفُ اسْتِقْبالٍ مِن حَيْثُ "الَّذِينَ" اسْمٌ فِيهِ إبْهامٌ يَعُمُّ مَن قالَ في الماضِي ومَن يَقُولُ في المُسْتَقْبَلِ، ومِن حَيْثُ هَذِهِ النازِلَةُ تُتَصَوَّرُ في مُسْتَقْبَلِ الزَمانِ، ويَطَّرِدُ النَهْيُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِيها، فَوُضِعَتْ "إذا" لِتَدُلَّ عَلى اطِّرادِ الأمْرِ في مُسْتَقْبَلِ الزَمانِ، وهَذِهِ فائِدَةُ وضْعِ المُسْتَقْبَلِ مَوْضِعَ الماضِي، كَما قالَ تَعالى: ﴿واللهُ يَدْعُو إلى دارِ السَلامِ﴾ [يونس: ٢٥] إلى نَحْوِها مِنَ الآياتِ، وكَما قالَتْ: وفِينا نَبِيٌّ يَعْلَمُ ما في غَدِ كَما أنَّ فائِدَةَ وضْعِهِمُ الماضِي مَوْضِعَ المُسْتَقْبَلِ لِلدَّلالَةِ عَلى ثُبُوتِ الأمْرِ، لِأنَّ صِيغَةَ الماضِي مُتَحَقِّقَةُ الوُقُوعِ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ وإنِّي لَآتِيكم تَشَكُّرَ ما مَضى مِنَ الأمْرِ واسْتِيجابَ ما كانَ في غَدِ (p-٤٠٠)وَمِنهُ قَوْلُ الرَبِيعِ: ؎ أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِلاحَ ولا ∗∗∗ أمْلِكُ رَأْسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرا والضَرْبُ في الأرْضِ: الإبْعادُ في السَيْرِ، ومِنهُ: ضَرَبَ الدَهْرُ ضَرَبانَهُ. إذا بَعُدَتِ المُدَّةُ. وضَرْبُ الأرْضِ: هو الذَهابُ فِيها لِحاجَةِ الإنْسانِ خاصَّةً بِسُقُوطِ "فِي"، وقالَ السُدِّيُّ وغَيْرُهُ في هَذِهِ الآيَةِ: الضَرْبُ في الأرْضِ: السَيْرُ في التِجارَةِ؛ وقالَ ابْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ: بَلْ هو السَيْرُ في جَمِيعِ طاعاتِ اللهِ ورَسُولِهِ، والضَرْبُ في الأرْضِ يَعُمُّ القَوْلَيْنِ. و"غُزّىً": جَمْعُ غازٍ، وزْنُهُ - فُعَّلٌ- بِضَمِّ الفاءِ وشَدِّ العَيْنِ المَفْتُوحَةِ، كَشاهِدٍ وشُهَّدٍ وقائِلٍ وقُوَّلٍ، ويُنْشَدُ بَيْتُ رُؤْبَةَ. ؎ فالآنَ قَدْ نَهْنَهَنِي تَنَهْنُهِي ∗∗∗ وأولُ حِلْمٍ لَيْسَ بِالمُسَفَّهِ ∗∗∗ وقُوَّلٌ إلّا دَهٍ فَلا دَهِ. يُرِيدُ إنْ لَمْ تَتُبِ الآنَ فَلا تَتُوبُ أبَدًا، وهو مِثْلُ مَعْناهُ: إنْ لَمْ تَكُنْ كَذا فَلا يَكُونُ كَذا، وقَدْ رُوِيَ: وقَوْلُهم إلّا دَهٍ فَلا دَهِ، قالَ سِيبَوَيْهِ وغَيْرُهُ: لا يَدْخُلُ "غُزّىً" الجَرُّ ولا الرَفْعُ. وقَرَأتْهُ عامَّةُ القُرّاءِ بِتَشْدِيدِ الزايِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ والزُهْرِيُّ: "غُزىً" مُخَفَّفَةَ الزايِ، ووَجْهُهُ إمّا أنْ يُرِيدَ غُزاةً، فَحَذَفَ الهاءَ إخْلادًا إلى لُغَةِ مَن يَقُولُ "غُزّىً" بِالتَشْدِيدِ، وهَذا الحَذْفُ كَثِيرٌ في كَلامِهِمْ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ يَمْدَحُ الكِسائِيَّ: ؎ أبى الذَمَّ أخْلاقُ الكِسائِيِّ وانْتَمى بِهِ ∗∗∗ المَجْدَ أخْلاقُ الأُبُوِّ السَوابِقِ يُرِيدُ الأُبُوَّةَ جَمْعَ أبٍ، كَما أنَّ العُمُومَةَ جَمْعُ عَمٍّ، والبُنُوَّةَ جَمْعُ ابْنٍ، وقَدْ قالُوا: ابْنٌ وبِنْوٌ. وتَحْتَمِلُ قِراءَتُهُما أنْ تَكُونَ تَخْفِيفًا لِلزّايِ مِن "غُزّىً"، ونَظِيرُهُ قِراءَةُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذابًا" في قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ تَخْفِيفٌ، وقَدْ (p-٤٠١)قِيلَ: إنَّهُ مَصْدَرٌ جَرى عَلى غَيْرِ المَصْدَرِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "وَما قُتِّلُوا" مُشَدَّدَةَ التاءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً﴾ قالَ مُجاهِدٌ: مَعْناهُ: يُحْزِنُهم قَوْلُهُ ولا يَنْفَعُهم. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فالإشارَةُ بِـ "ذَلِكَ" إلى هَذا المُعْتَقَدِ الَّذِي لَهُمْ، جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً، لِأنَّ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أنَّ كُلَّ مَوْتٍ وقَتْلٍ فَبِأجَلٍ سابِقٍ، يَجِدُ بَرْدَ اليَأْسِ والتَسْلِيمِ لِلَّهِ تَعالى عَلى قَلْبِهِ، والَّذِي يَعْتَقِدُ أنَّ حَمِيمَهُ لَوْ قَعَدَ في بَيْتِهِ لَمْ يَمُتْ يَتَحَسَّرُ ويَتَلَهَّفُ. وعَلى هَذا التَأْوِيلِ مَشى المُتَأوِّلُونَ، وهو أظْهَرُ ما في الآيَةِ. وقالَ قَوْمٌ: الإشارَةُ بِـ "ذَلِكَ" إلى انْتِهاءِ المُؤْمِنِينَ ومُخالَفَتِهِمُ الكافِرِينَ في هَذا المُعْتَقَدِ، فَيَكُونُ خِلافُهم لَهم حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ. وقالَ قَوْمٌ: الإشارَةُ بِـ "ذَلِكَ" إلى نَفْسِ نَهْيِ اللهِ تَعالى عَنِ الكَوْنِ مِثْلَ الكافِرِينَ في هَذا المُعْتَقَدِ، لِأنَّهم إذا رَأوا أنَّ اللهَ تَعالى قَدْ وسَمَهم بِمُعْتَقَدٍ وأمَرَ بِخِلافِهِمْ كانَ ذَلِكَ حَسْرَةً في قُلُوبِهِمْ. ويُحْتَمَلُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى النَهْيِ والِانْتِهاءِ مَعًا، فَتَأمَّلْهُ. والحَسْرَةُ: التَلَهُّفُ عَلى الشَيْءِ والغَمُّ بِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى خَبَرًا جَزْمًا أنَّهُ الَّذِي يُحْيِي ويُمِيتُ بِقَضاءٍ حَتْمٍ، لا كَما يَعْتَقِدُ هَؤُلاءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "واللهُ بِما يَعْمَلُونَ" بِالياءِ، فَهَذا وعِيدٌ لِلْمُنافِقِينَ، وقَرَأ الباقُونَ: "تَعْلَمُونَ" بِالتاءِ عَلى مُخاطَبَةِ المُؤْمِنِينَ، فَهَذا تَوْكِيدٌ لِلنَّهْيِ في قَوْلِهِ: "لا تَكُونُوا" ووَعِيدٌ لِمَن خالَفَهُ، ووَعْدٌ لِمَنِ امْتَثَلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب