الباحث القرآني
(p-٣٨٦)قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ حَتّى إذا فَشِلْتُمْ وتَنازَعْتُمْ في الأمْرِ وعَصَيْتُمْ مِن بَعْدِ ما أراكم ما تُحِبُّونَ مِنكم مِن يُرِيدُ الدُنْيا ومِنكم مِن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكم عنهم لِيَبْتَلِيَكم ولَقَدْ عَفا عنكم واللهُ ذُو فَضْلٍ عَلى المُؤْمِنِينَ﴾
جاءَتِ المُخاطَبَةُ في هَذِهِ الآياتِ بِجَمْعِ ضَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وإنْ كانَتِ الأُمُورُ الَّتِي عاتَبَهُمُ اللهُ تَعالى عَلَيْها لَمْ يَقَعْ فِيها جَمِيعُهُمْ، ولِذَلِكَ وُجُوهٌ مِنَ الفَصاحَةِ: مِنها وعْظُ الجَمِيعِ وزَجْرُهُ، إذْ مَن لَمْ يَفْعَلْ مُعَدٌّ أنْ يَفْعَلَ إنْ لَمْ يُزْجَرْ، ومِنها السَتْرُ والإبْقاءُ عَلى مَن فَعَلَ، وكانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ وعَدَ المُؤْمِنِينَ النَصْرَ يَوْمَئِذٍ، عَلى خَبَرِ اللهِ تَعالى إنْ صَبَرُوا وجَدُّوا، فَصَدَقَ اللهُ الوَعْدَ أوَّلًا، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ صافَّ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ ورَتَّبَ الرُماةَ، عَلى ما قَدْ ذَكَرْناهُ في صَدْرِ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآياتِ في قِصَّةِ أُحُدٍ، فَبارَزَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ أبا سَعْدِ بْنَ أبِي طَلْحَةَ وهو صاحِبُ لِواءِ المُشْرِكِينَ، وحَمَلَ الزُبَيْرُ وأبُو دُجانَةَ فَهَزّا عَسْكَرَ المُشْرِكِينَ، ونَهَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالناسِ، فَأبْلى حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ وعاصِمُ بْنُ أبِي الأقْلَحِ، وانْهَزَمَ المُشْرِكُونَ وقُتِلَ مِنهُمُ اثْنانِ وعِشْرُونَ رَجُلًا فَهَذا مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ تَحُسُّونَهم بِإذْنِهِ﴾. والحَسُّ: القَتْلُ الذَرِيعُ، يُقالُ حَسَّهم إذا اسْتَأْصَلَهم قَتْلًا، وحَسَّ البَرْدُ النَباتَ، وقالَ رُؤْبَةُ:
؎ إذا شَكَوْنا سَنَةً حَسُوسًا تَأْكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ اليَبِيسا
قالَ بَعْضُ الناسِ: هو مَأْخُوذٌ مِنَ الحاسَّةِ، والمَعْنى في حَسَّ: أفْسَدَ الحَواسَّ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا ضَعِيفٌ. والإذْنُ: التَمْكِينُ مَعَ العِلْمِ بِالمُمَكَّنِ مِنهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا فَشِلْتُمْ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "حَتّى" غايَةً مُجَرَّدَةً، كَأنَّهُ (p-٣٨٧)قالَ: إلى أنْ فَشِلْتُمْ، ويُقَوِّي هَذا أنَّ "إذا" بِمَعْنى "إذْ" لِأنَّ الأمْرَ قَدْ كانَ تَقَضّى، وإنَّما هي حِكايَةُ حالٍ، فَتَسْتَغْنِي "إذا" عَلى هَذا النَظَرِ عن جَوابٍ، والأظْهَرُ الأقْوى أنَّ "إذا" عَلى بابِها تَحْتاجُ إلى الجَوابِ، وتَكُونُ "حَتّى" كَأنَّها حَرْفُ ابْتِداءٍ عَلى نَحْوِ دُخُولِها عَلى الجُمَلِ.
واخْتَلَفَ النُحاةُ في جَوابِ "إذا"، فَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إلى أنَّ الجَوابَ قَوْلُهُ: "تَنازَعْتُمْ"، والواوُ زائِدَةٌ، وحَكى المَهْدَوِيُّ عن أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: الجَوابُ قَوْلُهُ: "صَرَفَكُمْ" و"ثُمَّ" زائِدَةٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا قَوْلٌ لا يُشْبِهُ نَظَرَ أبِي عَلِيٍّ. ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ وفُرْسانِ الصِناعَةِ أنَّ الجَوابَ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى، تَقْدِيرُهُ: انْهَزَمْتُمْ ونَحْوُهُ. والفَشَلُ: اسْتِشْعارُ العَجْزِ وتَرْكُ الجِدِّ، وهَذا مِمّا فَعَلَهُ يَوْمَئِذٍ قَوْمٌ. والتَنازُعُ هو الَّذِي وقَعَ بَيْنَ الرُماةِ، فَقالَ بَعْضُهُمُ: الغَنِيمَةَ الغَنِيمَةَ، ألْحِقُونا بِالمُسْلِمِينَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَثْبُتُ كَما أُمِرْنا. و"عَصَيْتُمْ" عِبارَةٌ عن ذَهابِ مَن ذَهَبَ مِنَ الرُماةِ حَتّى تَمَكَّنَ خالِدُ بْنُ الوَلِيدِ مِن غِرَّةِ المُسْلِمِينَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ ما أراكم ما تُحِبُّونَ﴾ يَعْنِي مِن هَزْمِ القَوْمِ، قالَ الزُبَيْرُ بْنُ العَوّامِ: واللهِ لَقَدْ رَأيْتُنِي أنْظُرُ إلى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وصَواحِبِها مُشَمِّراتٍ هارِباتٍ ما دُونَ أخْذِهِنَّ قَلِيلٌ ولا كَثِيرٌ، إذْ مالَتِ الرُماةُ إلى العَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنا القَوْمَ عنهُ يُرِيدُونَ النَهْبَ وخَلَّوْا ظُهُورَنا لِلْخَيْلِ، فَأُتِينا مِن أدْبارِنا، وصَرَخَ صارِخٌ: ألا إنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فانْكَفَأْنا وانْكَفَأ عَلَيْنا القَوْمُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنكم مَن يُرِيدُ الدُنْيا﴾ إخْبارٌ عَنِ الَّذِينَ حَرَصُوا عَلى الغَنِيمَةِ وكانَ المالُ هَمَّهُمْ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وسائِرُ المُفَسِّرِينَ. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: ما كُنْتُ أرى أنَّ أحَدًا مِن أصْحابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يُرِيدُ الدُنْيا حَتّى نَزَلَ فِينا يَوْمَ أُحُدٍ: ﴿مِنكم مَن يُرِيدُ الدُنْيا﴾.
(p-٣٨٨)و قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنكم مَن يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ إخْبارٌ عن ثُبُوتِ مَن ثَبَتَ مِنَ الرُماةِ مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُبَيْرٍ امْتِثالًا لِلْأمْرِ حَتّى قُتِلُوا، ويَدْخُلُ في هَذا أنَسُ بْنُ النَضْرِ وكُلُّ مَن جَدَّ ولَمْ يَضْطَرِبْ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "لِيَبْتَلِيَكُمْ" مَعْناهُ: لِيُنْزِلَ بِكم ذَلِكَ البَلاءَ مِنَ القَتْلِ والتَمْحِيصِ.
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَلَقَدْ عَفا عنكُمْ﴾ إعْلامٌ بِأنَّ الذَنْبَ كانَ يَسْتَحِقُّ أكْثَرَ مِمّا نَزَلَ، وهَذا تَحْذِيرٌ، والمَعْنى: ولَقَدْ عَفا عنكم بِأنْ لَمْ يَسْتَأْصِلُوكُمْ، فَهو بِمَنزِلَةِ: ولَقَدْ أبْقى عَلَيْكُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إخْبارًا بِأنَّهُ عَفا عن ذُنُوبِهِمْ في قِصَّةِ أُحُدٍ، فَيَكُونَ بِمَنزِلَةِ العَفْوِ المَذْكُورِ بَعْدُ، وبِالتَفْسِيرِ الأوَّلِ قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وابْنُ إسْحاقَ وجَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "قُتِلَ مِنهم سَبْعُونَ، وقُتِلَ عَمُّ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ، وشُجَّ في وجْهِهِ وكُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ، وإنَّما العَفْوُ أنْ لَمْ يَسْتَأْصِلْهم. هَؤُلاءِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وفي سَبِيلِ اللهِ غِضابٌ لِلَّهِ، يُقاتِلُونَ أعْداءَ اللهِ، نُهُوا عن شَيْءٍ فَضَيَّعُوهُ، فَوَ اللهِ ما تُرِكُوا حَتّى غُمُّوا بِهَذا الغَمِّ، فَأفْسَقُ الفاسِقِينَ اليَوْمَ يَجْتَرِمُ كُلَّ كَبِيرَةٍ، ويَرْكَبُ كُلَّ داهِيَةٍ، ويَسْحَبُ عَلَيْها ثِيابَهُ، ويَزْعُمُ أنْ لا بَأْسَ عَلَيْهِ، فَسَوْفَ يَعْلَمُ".
{"ayah":"وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥۤ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰۤ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَیۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلدُّنۡیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِیَبۡتَلِیَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق