الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكم عَلى أعْقابِكم فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾ ﴿بَلِ اللهُ مَوْلاكم وهو خَيْرُ الناصِرِينَ﴾ ﴿سَنُلْقِي في قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُعْبَ بِما أشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطانًا ومَأْواهُمُ النارُ وبِئْسَ مَثْوى الظالِمِينَ﴾
الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ( الَّذِينَ كَفَرُوا ) إلى المُنافِقِينَ الَّذِينَ جَبَّنُوا المُسْلِمِينَ وقالُوا في أمْرِ أُحُدٍ: لَوْ كانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمْ يُهْزَمْ، والَّذِينَ قالُوا: قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ فَلْنَرْجِعْ إلى دِينِنا الأوَّلِ، إلى نَحْوِ هَذِهِ الأقْوالِ، ثُمَّ اللَفْظُ يَقْتَضِي كُلَّ كافِرٍ كانَ في ذَلِكَ الوَقْتِ ويَكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. نَهى اللهُ المُؤْمِنِينَ عن طاعَتِهِمْ. و"بَلِ" تَرْكٌ لِلْكَلامِ الأوَّلِ ودُخُولٌ في غَيْرِهِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ" عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ، وهَذا تَثْبِيتٌ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ" "بَلِ اللهَ" بِالنَصْبِ عَلى مَعْنى: بَلْ أطِيعُوا اللهَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "سَنُلْقِي" اسْتِعارَةٌ، إذْ حَقِيقَةُ الإلْقاءِ إنَّما هي في الأجْرامِ، وهَذا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ﴾ [النور: ٤] ونَحْوُهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: (p-٣٨٤)
؎ هُما نَفَثا في فِيَّ مِن فَمَوَيْهِما عَلى النابِحِ العاوِي أشَدَّ رِجامِ
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ "سَنُلْقِي" بِنُونِ العَظَمَةِ، وقَرَأ أيُّوبُ السِخْتِيانِيُّ: "سَيُلْقِي" بِالياءِ عَلى مَعْنى "هُوَ"، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ والكِسائِيُّ "الرُعُبَ" بِضَمِّ العَيْنِ حَيْثُ وقَعَ، وقَرَأ الباقُونَ: "الرُعْبَ" بِسُكُونِ العَيْنِ. وهَذا كَقَوْلِهِمْ: عُنُقٌ وعُنْقٌ وكِلاهُما حَسَنٌ فَصِيحٌ.
وسَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ: أنَّهُ «لَمّا ارْتَحَلَ أبُو سُفْيانَ بِالكُفّارِ؛ بَعَثَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ وقالَ: انْظُرِ القَوْمَ، فَإنْ كانُوا قَدْ جَنَّبُوا الخَيْلَ ورَكِبُوا الإبِلَ فَهم مُتَشَمِّرُونَ إلى مَكَّةَ، وإنْ كانُوا عَلى الخَيْلِ فَهم عامِدُونَ إلى المَدِينَةِ، فَمَضى عَلِيٌّ فَرَآهم قَدْ جَنَّبُوا الخَيْلَ فَأخْبَرَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَسُرَّ وسُرَّ المُسْلِمُونَ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إلى المَدِينَةِ فَتَجَهَّزَ واتَّبَعَ المُشْرِكِينَ يُرِيهِ الجَلَدَ، فَبَلَغَ حَمْراءَ الأسَدِ؛ وإنَّ أبا سُفْيانَ قالَ لَهُ كُفّارُ قُرَيْشٍ: أحِينَ قَتَلْناهم وهَزَمْناهم ولَمْ يَبْقَ إلّا الفَلُّ والطَرِيدُ نَنْصَرِفُ عنهُمُ؟ ارْجِعْ بِنا إلَيْهِمْ حَتّى نَسْتَأْصِلَهم فَعَزَمُوا عَلى ذَلِكَ، وكانَ مَعْبَدُ بْنُ أبِي مَعْبَدٍ الخُزاعِيُّ قَدْ جاءَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ وهو عَلى كُفْرِهِ، إلّا أنَّ خُزاعَةَ كُلَّها كانَتْ تَمِيلُ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ لَهُ: واللهِ يا مُحَمَّدُ لَقَدْ ساءَنا ما أصابَكَ؛ ولَوَدِدْنا أنَّكَ لَمْ تُرْزَأْ في أصْحابِكَ. فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللهِ ﷺ والناسُ بِما عَزَمَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنَ الانْصِرافِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَسَخَّرَ اللهُ ذَلِكَ الرَجُلَ مَعْبَدَ بْنَ أبِي مَعْبَدٍ، وألْقى بِسَبَبِهِ الرُعْبَ في قُلُوبِ الكُفّارِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا سَمِعَ الخَبَرَ رَكِبَ حَتّى لَحِقَ بِأبِي سُفْيانَ بِالرَوْحاءِ، وقُرَيْشٌ قَدْ أجْمَعُوا الرَجْعَةَ إلى رَسُولِ اللهِ ﷺ وأصْحابِهِ، فَلَمّا رَأى أبُو سُفْيانَ مَعْبَدًا قالَ: ما وراءَكَ يا مَعْبَدُ؟ قالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ في أصْحابِهِ يَطْلُبُكم في جَمْعٍ لَمْ أرَ مِثْلَهُ قَطُّ، (p-٣٨٥)يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ، قَدِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ مَن كانَ تَخَلَّفَ عنهُ، ونَدِمُوا عَلى ما صَنَعُوا، قالَ: ويْلَكَ ما تَقُولُ؟ قالَ: واللهِ ما أرى أنْ تَرْتَحِلَ حَتّى تَرى نَواصِيَ الخَيْلِ، قالَ: فَوَ اللهِ لَقَدْ أجْمَعْنا الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيَّتَهُمْ، قالَ: فَإنِّي أنْهاكَ عن ذَلِكَ، واللهِ لَقَدْ حَمَلَنِي ما رَأيْتُ عَلى أنْ قُلْتُ فِيهِ شِعْرًا قالَ: وما قُلْتَ؟ قالَ "قُلْتُ":
؎ كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصْواتِ راحِلَتِي ∗∗∗ إذْ سالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبابِيلِ
؎ تَرْدِي بِأُسْدٍ كِرامٍ لا تَنابِلَةٍ ∗∗∗ عِنْدَ اللِقاءِ ولا مِيلٍ مَعازِيلِ
؎ فَظَلْتُ عَدْوًا أظُنُّ الأرْضَ مائِلَةً ∗∗∗ لَمّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
إلى آخِرِ الشِعْرِ، فَوَقَعَ الرُعْبُ في قُلُوبِ الكُفّارِ. وقالَ صَفْوانُ بْنُ أُمَيَّةَ: لا تَرْجِعُوا فَإنِّي أرى أنَّهُ سَيَكُونُ لِلْقَوْمِ قِتالٌ غَيْرُ الَّذِي كانَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ» في هَذا الإلْقاءِ، وهي -بَعْدُ- مُتَناوِلَةٌ كُلَّ كافِرٍ، ويَجْرِي مَعَها قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ: « "نُصِرْتُ بِالرُعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ"،» ويَظْهَرُ أنَّ هَذِهِ الفَضِيلَةَ إنَّما أُعْلِمَ عَلَيْهِ السَلامُ بِها بَعْدَ هَذِهِ الأحْوالِ كُلِّها حِينَ امْتَدَّ ظِلُّ الإسْلامِ. قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: إنَّهُ لَمّا أمَرَ اللهُ المُؤْمِنَ بِالصَبْرِ.
ووَعَدَهُ النَصْرَ، وأخْبَرَهُ أنَّ الرُعْبَ مُلْقىً في قُلُوبِ الكُفّارِ، نَقَصَ الرُعْبُ مِن كُلِّ كافِرٍ جُزْءًا مَعَ زِيادَةِ شَجاعَةِ المُؤْمِنِ، إذْ قَدْ وُعِدَ النَصْرَ، فَلِذَلِكَ كُلِّفَ المُؤْمِنُ الوُقُوفَ لِلْكافِرِينَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: "بِما أشْرَكُوا" هَذِهِ باءُ السَبَبِ، والمَعْنى: أنَّ المُشْرِكَ بِاللهِ نَفْسُهُ مُقَسَّمَةٌ في الدُنْيا، ولَيْسَ لَهُ بِاللهِ تَعالى ثِقَةٌ، فَهو يَكْرَهُ المَوْتَ ويَسْتَشْعِرُ الرُعْبَ مِنهُ، والسُلْطانُ: الحُجَّةُ والبُرْهانُ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِعاقِبَةِ الكُفّارِ في الآخِرَةِ، والمَأْوى: مَفْعَلٌ مِن أوَيْتَ إلى المَكانِ إذا دَخَلْتَهُ وسَكَنْتَ فِيهِ، والمَثْوى، مَفْعَلٌ مِن: ثَوَيْتَ، والتَقْدِيرُ: وبِئْسَ مَثْوى الظالِمِينَ هي.
{"ayahs_start":149,"ayahs":["یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تُطِیعُوا۟ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَرُدُّوكُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ","بَلِ ٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلنَّـٰصِرِینَ","سَنُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلرُّعۡبَ بِمَاۤ أَشۡرَكُوا۟ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ یُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَـٰنࣰاۖ وَمَأۡوَىٰهُمُ ٱلنَّارُۖ وَبِئۡسَ مَثۡوَى ٱلظَّـٰلِمِینَ"],"ayah":"بَلِ ٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلنَّـٰصِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق