الباحث القرآني
(p-٣٦٩)قوله عزّ وجلّ:
﴿أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنكم ويَعْلَمَ الصابِرِينَ﴾ ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأيْتُمُوهُ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾
"أمْ" هي بِمَعْنى الإضْرابِ عَنِ الكَلامِ الأوَّلِ والتَرْكِ لَهُ، وفِيها لازَمَ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، فَلِذَلِكَ قَدَّرَها سِيبَوَيْهِ بِبَلْ وألِفِ الِاسْتِفْهامِ.
و"حَسِبْتُمْ" مَعْناهُ: ظَنَنْتُمْ؛. وهَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها تَقْرِيعٌ وعَتْبٌ لِطَوائِفِ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ وقَعَتْ مِنهُمُ الهَفَواتُ المَشْهُورَةُ في يَوْمِ أُحُدٍ.
وقَوْلُهُ: ﴿وَلَمّا يَعْلَمِ﴾ نَفْيٌ مُؤَكَّدٌ وهو مُعادِلٌ لِقَوْلِ القائِلِ: قَدْ كانَ كَذا، فَلَمّا أكَّدَ هَذا الخَبَرَ المُوجَبَ بِقَدْ أكَّدَ النَفْيَ المُعادِلَ لَهُ بِلَمّا، وإذا قالَ القائِلُ: كانَ هَذا، فَمُعادِلُهُ: لَمْ يَكُنْ دُونَ تَأْكِيدٍ في الوَجْهَيْنِ، قالَهُ سِيبَوَيْهِ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: بِكَسْرِ المِيمِ لِلِالتِقاءِ في قَوْلِهِ: "وَلَمّا يَعْلَمِ"، وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: "وَلَمّا يَعْلَمَ" بِفَتْحِ المِيمِ إتْباعًا لِفَتْحَةِ اللامِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ "وَيَعْلَمَ" عَلى النَصْبِ بِإضْمارِ "أنْ" عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وبِواوِ الصَرْفِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ ورُوِيَ عن أبِي عَمْرِو بْنِ العَلاءِ أنَّهُ قَرَأ: "وَيَعْلَمُ" بِالرَفْعِ عَلى اسْتِئْنافِ الفِعْلِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ وأبُو حَيْوَةَ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: "وَيَعْلَمِ" بِكَسْرِ المِيمِ جَزْمًا مَعْطُوفًا عَلى قَوْلِهِ: "وَلَمّا يَعْلَمِ".
ثُمَّ خاطَبَ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ﴾ والسَبَبُ في ذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ في غَزْوَةِ بَدْرٍ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ مُبادِرًا فَلَمْ يُوعِبِ الناسُ مَعَهُ، إذْ كانَ الظَنُّ أنَّهُ لا يَلْقى حَرْبًا، فَلَمّا قَضى اللهُ بِبَدْرٍ ما قَضى وفازَ حاضِرُوها بِالمَنزِلَةِ الرَفِيعَةِ؛ كانَ المُتَخَلِّفُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عنها يَتَمَنَّوْنَ حُضُورَ قِتالِ الكُفّارِ مَعَ النَبِيِّ ﷺ لِيَكُونَ مِنهم في ذَلِكَ غَناءٌ يُلْحِقُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ونَبِيِّهِمْ بِمَنزِلَةِ أهْلِ بَدْرٍ، ولِأنَسِ بْنِ النَضْرِ في ذَلِكَ كَلامٌ مَحْفُوظٌ، فَلَمّا جاءَ أمْرُ أُحُدٍ وحَضَرَ القِتالُ لَمْ يَصْدُقْ كُلُّ (p-٣٧٠)المُؤْمِنِينَ، فَعاتَبَهُمُ اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، وألْزَمَهم تَعالى تَمَنِّي المَوْتِ مِن حَيْثُ تَمَنَّوْا لِقاءَ الرِجالِ بِالحَدِيدِ ومُضارَبَتَهم بِهِ، وهي حالٌ في ضِمْنِها في الأغْلَبِ المَوْتُ، ولا يَتَمَنّاها إلّا مَن طابَتْ نَفْسُهُ بِالمَوْتِ، فَصارَ المَوْتُ كَأنَّهُ المُتَمَنّى، وإلّا فَنَفْسُ قَتْلِ المُشْرِكِ لِلْمُسْلِمِ لا يَجُوزُ أنْ يُتَمَنّى مِن حَيْثُ هو قَتْلٌ، وإنَّما تُتَمَنّى لَواحِقُهُ مِنَ الشَهادَةِ والتَنْعِيمِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مِن قَبْلِ أنْ تَلْقَوْهُ"، وقَرَأ الزُهْرِيُّ وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ "مِن قَبْلِ أنْ تُلاقُوهُ"، وهَذِهِ والأُولى في المَعْنى سَواءٌ، مِن حَيْثُ "لَقِيَ" مَعْناهُ يَتَضَمَّنُ أنَّهُ مِنِ اثْنَيْنِ وإنْ لَمْ يَكُنْ عَلى وزْنِ فاعِلٍ، وقَرَأ مُجاهِدٌ "مِن قَبْلُ" بِضَمِّ اللامِ وتَرْكِ الإضافَةِ، وجَعْلِ "أنْ تَلْقَوْهُ" بَدَلًا مِنَ "المَوْتَ".
وقَوْلُهُ تَعالى: "فَقَدْ رَأيْتُمُوهُ" يُرِيدُ رَأيْتُمْ أسْبابَهُ، وهي الحَرْبُ المُشْتَعِلَةُ والرِجالُ بِأيْدِيهِمُ السُيُوفُ، وهَذا كَما قالَ عُمَيْرُ بْنُ وهْبٍ يَوْمَ بَدْرٍ: رَأيْتُ البَلايا تَحْمِلُ المَنايا قالَ الحارِثُ بْنُ هِشامٍ:
؎ ووَجَدْتُ رِيحَ المَوْتِ مِن تِلْقائِهِمْ في مَأْزِقٍ والخَيْلُ لَمْ تَتَبَدَّدِ
يُرِيدُ لِقُرْبِ الأمْرِ، ونَحْوُ هَذا قَوْلُ عامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ:
؎ لَقَدْ رَأيْتُ المَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ
(p-٣٧١)يُرِيدُ لَمّا اشْتَدَّ بِهِ المَرَضُ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "فَلَقَدْ رَأيْتُمُوهُ"، وقَوْلُهُ تَعالى: "وَأنْتُمْ تَنْظُرُونَ" يَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ مَعانٍ: أحَدُها: التَأْكِيدُ لِلرُّؤْيَةِ وإخْراجُها مِنَ الاشْتِراكِ الَّذِي بَيْنَ رُؤْيَةِ القَلْبِ ورُؤْيَةِ العَيْنِ في اللَفْظِ، والآخَرُ: أنْ يَكُونَ المَعْنى: وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ في أسْبابِ النَجاةِ والفِرارِ وفي أمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَلامُ هَلْ قُتِلَ أمْ لا؟ وذَلِكَ كُلُّهُ نَقْضٌ لِما كُنْتُمْ عاهَدْتُمُ اللهَ عَلَيْهِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وحَكى مَكِّيٌّ وغَيْرُهُ عن قَوْمٍ أنَّهم قالُوا: المَعْنى: وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى مُحَمَّدٍ، وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، إلّا أنْ يُنْحى بِهِ إلى هَذا القَوْلِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أنَّهُ النَظَرُ في أمْرِهِ هَلْ قُتِلَ؟ والِاضْطِرابُ بِحَسَبِ ذَلِكَ.
والمَعْنى الثالِثُ: أنْ يَكُونَ قَدْ وقَّفَهم عَلى تَمَنِّيهِمْ ومُعاهَدَتِهِمْ، وعَلى أنَّهم رَأوُا الَّذِي تَمَنَّوْا، ثُمَّ قالَ عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ والعَتْبِ: ﴿وَأنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ في فِعْلِكُمُ الآنَ بَعْدَ انْقِضاءِ الحَرْبِ هَلْ وفَّيْتُمْ أمْ خالَفْتُمْ؟ كَأنَّهُ قالَ: وأنْتُمْ حُسَباءُ أنْفُسِكُمْ، فَتَأمَّلُوا قَبِيحَ فِعْلِكُمْ، وفي هَذا التَوْبِيخِ عَلى هَذا الوَجْهِ ضَرْبٌ جَمِيلٌ مِنَ الإبْقاءِ والصَوْنِ والِاسْتِدْعاءِ. قالَ ابْنُ فُورَكٍ: المَعْنى وأنْتُمْ تَتَأمَّلُونَ الحالَ في ذَلِكَ وتُفَكِّرُونَ فِيها كَيْفَ هِيَ؟ وهَذا نَحْوُ ما تَقَدَّمَ.
{"ayahs_start":142,"ayahs":["أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ","وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَیۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ"],"ayah":"وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَیۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











