الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأمّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكم فَذُوقُوا العَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ﴿وَأمّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهم فَفي رَحْمَةِ اللهِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ والعامِلُ في قَوْلِهِ: "يَوْمَ" الفِعْلُ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ اللامُ في قَوْلِهِ: ( ولَهم عَذابٌ عَظِيمٌ )، قالَ الزَجّاجُ: تَقْدِيرُهُ: ويَثْبُتُ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ،. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وذَلِكَ ضَعِيفٌ مِن جِهَةِ المَعْنى، لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنْ عَظَّمَ العَذابَ في ذَلِكَ اليَوْمِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ العامِلُ قَوْلَهُ: "عَذابٌ" لِأنَّهُ مَصْدَرٌ قَدْ وُصِفَ. وبَياضُ الوُجُوهِ: عِبارَةٌ عن إشْراقِها واسْتِنارَتِها وبِشْرِها بِرَحْمَةِ اللهِ، قالَ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ. ويَحْتَمِلُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِن آثارِ الوُضُوءِ كَما قالَ النَبِيُّ ﷺ: « "أنْتُمُ الغُرُّ المُحَجَّلُونَ مِن آثارِ الوُضُوءِ".» وأمّا سَوادُ الوُجُوهِ: فَقالَ المُفَسِّرُونَ: هو عِبارَةٌ عَنِ ارْبِدادِها وإظْلامِها بِغَمِّ العَذابِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَسْوِيدًا يُنْزِلُهُ اللهُ بِهِمْ عَلى جِهَةِ (p-٣١٣)التَشْوِيهِ والتَمْثِيلِ بِهِمْ، عَلى نَحْوِ حَشْرِهِمْ زُرْقًا وهَذِهِ أقْبَحُ طَلْعَةٍ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ بَشّارٍ: ؎ ولِلْبَخِيلِ عَلى أمْوالِهِ عِلَلٌ زُرْقُ العُيُونِ عَلَيْها أوجُهٌ سُودُ وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ: "تِبْيَضُّ وتِسْوَدُّ" بِكَسْرِ التاءِ، وقَرَأ الزُهْرِيُّ، "تَبْياضُّ وُجُوهٌ، وتَسْوادُّ وُجُوهٌ" بِألِفٍ، وهي لُغَةٌ. ولَمّا كانَ صَدْرُ هَذِهِ الآيَةِ إخْبارًا عن حالٍ لا تَخُصُّ أحَدًا مُعَيَّنًا بُدِئَ بِذِكْرِ البَياضِ لِشَرَفِهِ، وأنَّهُ الحالَةُ المُثْلى، فَلَمّا فُهِمَ المَعْنى وتَعَيَّنَ لَهُ الكُفّارُ والمُؤْمِنُونَ، بُدِئَ بِذِكْرِ الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهم لِلِاهْتِمامِ بِالتَحْذِيرِ مِن حالِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أكَفَرْتُمْ" تَقْرِيرٌ وتَوْبِيخٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَيُقالُ لَهُمْ: أكَفَرْتُمْ؟ وفي هَذا المَحْذُوفِ هو جَوابُ "أمّا"، وهَذا هو فَحْوى الخِطابِ، وهو أنْ يَكُونَ في الكَلامِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ لا يَسْتَغْنِي المَعْنى عنهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أو عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ﴾ [البقرة: ١٨٤] المَعْنى: فَأفْطَرَ فَعِدَّةٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَعْدَ إيمانِكُمْ﴾ يَقْتَضِي أنَّ لِهَؤُلاءِ المُوقَفِينَ إيمانًا مُتَقَدِّمًا، فاخْتَلَفَ أهْلُ التَأْوِيلِ في تَعْيِينِهِمْ، فَقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: المُوقَفِينَ جَمِيعُ الكُفّارِ، والإيمانُ الَّذِي قِيلَ لَهم بِسَبَبِهِ: "بَعْدَ إيمانِكُمْ" هو الإيمانُ الَّذِي أقَرُّوا بِهِ يَوْمَ قِيلَ لَهُمْ: "ألَسْتُ بِرَبِّكم قالُوا بَلى" وقالَ أكْثَرُ المُتَأوِّلِينَ: إنَّما عَنى بِالتَوْقِيفِ في هَذِهِ الآيَةِ أهْلَ القِبْلَةِ مِن هَذِهِ (p-٣١٤)الأُمَّةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقالَ الحَسَنُ: الآيَةُ في المُنافِقِينَ، يُؤْمِنُونَ بِألْسِنَتِهِمْ ويَكْفُرُونَ بِقُلُوبِهِمْ، فَيُقالُ لَهُمْ: أكَفَرْتُمْ بَعْدَ إيمانِكُمْ؟ أيْ ذَلِكَ الإيمانُ بِألْسِنَتِهِمْ. وقالَ السُدِّيُّ: هي فِيمَن كَفَرَ مِن أهْلِ القِبْلَةِ حِينَ اقْتَتَلُوا، وقالَ أبُو أُمامَةَ: الآيَةُ في الخَوارِجِ، وقالَ قَتادَةُ: الآيَةُ في أهْلِ الرِدَّةِ، ومِنهُ الحَدِيثُ: « "لَيَرِدَنَّ عَلى الحَوْضِ رِجالٌ مِن أصْحابِي حَتّى إذا رُفِعُوا إلَيَّ اخْتَلَجُوا فَأقُولُ: أُصَيْحابِي أُصَيْحابِي، فَيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْرِي ما أحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا، وفي بَعْضِ طُرُقِهِ: "فَأُنادِيهِمْ: ألا هَلُمَّ، ألا هَلُمَّ".» وذَكَرَ النَحّاسُ قَوْلًا: إنَّ الآيَةَ في اليَهُودِ، وذَلِكَ أنَّهم آمَنُوا بِصِفَةِ مُحَمَّدٍ واسْتَفْتَحُوا بِهِ، فَلَمّا جاءَهم مِن غَيْرِهِمْ كَفَرُوا، فَهَذا كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، ورُوِيَ عن مالِكٍ أنَّهُ قالَ: الآيَةُ في أهْلِ الأهْواءِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: إنْ كانَ هَذا فَفي المُخْتَلِجِينَ مِنهُمُ القائِلِينَ ما هو كُفْرٌ، ورُوِيَ حَدِيثٌ أنَّ الآيَةَ في القَدَرِيَّةِ وقالَ أبُو أُمامَةَ: سَمِعْنا مِن رَسُولِ اللهِ ﷺ: أنَّها في الحَرُورِيَّةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عنهُ أنَّها في الخَوارِجِ وهو قَوْلٌ واحِدٌ، و"ما" في قَوْلِهِ "بِما كُنْتُمْ" مَصْدَرِيَّةٌ؛ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَفِي رَحْمَةِ اللهِ﴾ أيْ في النَعِيمِ الَّذِي هو مُوجَبُ رَحْمَةِ اللهِ، وقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: "هم فِيها" تَأْكِيدٌ بِجُمْلَتَيْنِ، إذْ كانَ الكَلامُ يَقُومُ دُونَها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب