الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنكم أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ ﴿وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ البَيِّناتُ وأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ قَرَأ الحَسَنُ والزُهْرِيُّ وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ وعِيسى بْنُ عُمَرَ وأبُو حَيْوَةَ: "وَلِتَكُنْ" بِكَسْرِ اللامِ عَلى الأصْلِ، إذْ أصْلُها الكَسْرُ، وكَذَلِكَ قَرَؤُوا لامَ الأمْرِ في جَمِيعِ القُرْآنِ. (p-٣١٠)قالَ الضَحّاكُ والطَبَرِيُّ وغَيْرُهُما: أُمِرَ المُؤْمِنُونَ أنْ تَكُونَ مِنهم جَماعَةٌ بِهَذِهِ الصِفَةِ، فَهم خاصَّةً أصْحابُ الرَسُولِ، وهم خاصَّةً الرُواةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَعَلى هَذا القَوْلِ "مِن" لِلتَّبْعِيضِ. وأمَرَ اللهُ الأُمَّةَ بِأنْ يَكُونَ مِنها عُلَماءُ يَفْعَلُونَ هَذِهِ الأفاعِيلَ عَلى وُجُوهِها، ويَحْفَظُونَ قَوانِينَها عَلى الكَمالِ، ويَكُونُ سائِرُ الأُمَّةِ مُتَّبِعِينَ لِأُولَئِكَ، إذْ هَذِهِ الأفْعالُ لا تَكُونُ إلّا بِعِلْمٍ واسِعٍ، وقَدْ عَلِمَ تَعالى أنَّ الكُلَّ لا يَكُونُ عالِمًا، وذَهَبَ الزَجّاجُ وغَيْرُ واحِدٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّ المَعْنى: ولْتَكُونُوا كُلَّكم أُمَّةً يَدْعُونَ، "وَمِن" لِبَيانِ الجِنْسِ قالَ: ومِثْلُهُ مِن كِتابِ اللهِ ﴿فاجْتَنِبُوا الرِجْسَ مِنَ الأوثانِ﴾ [الحج: ٣٠] ومِثْلُهُ مِنَ الشِعْرِ قَوْلُ القائِلِ: ؎ أخُو رَغائِبَ يُعْطِيها ويُسْألُها يَأْبى الظُلامَةَ مِنهُ النَوْفَلُ الزُفَرُ قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ الآيَةُ عَلى هَذا التَأْوِيلِ إنَّما هي عِنْدِي بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: لِيَكُنْ مِنكَ رَجُلٌ صالِحٌ، فَفِيها المَعْنى الَّذِي يُسَمِّيهِ النَحْوِيُّونَ "التَجْرِيدَ". وانْظُرْ أنَّ المَعْنى الَّذِي هو ابْتِداءُ الغايَةِ يَدْخُلُها، وكَذَلِكَ يَدْخُلُ قَوْلَهُ تَعالى: "مِنَ الأوثانِ" ولا تَجِدُهُ يَدْخُلُ قَوْلَ الشاعِرِ: "مِنهُ النَوْفَلُ الزُفَرُ"، ولا تَجِدُهُ يَدْخُلُ في "مِن" الَّتِي هي صَرِيحُ بَيانِ الجِنْسِ، كَقَوْلِكَ: ثَوْبٌ مِن خَزٍّ، وخاتَمٌ مِن فِضَّةٍ، بَلْ هَذِهِ يُعارِضُها مَعْنى التَبْعِيضِ. ومَعْنى الآيَةِ عَلى هَذا التَأْوِيلِ: أمْرُ الأُمَّةِ بِأنْ يَكُونُوا يَدْعُونَ جَمِيعَ العالَمِ إلى الخَيْرِ، الكُفّارَ إلى الإسْلامِ، والعُصاةَ إلى الطاعَةِ، ويَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الأُمُورِ عَلى مَنزِلَتِهِ مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ. قالَ أهْلُ العِلْمِ: وفَرَضَ اللهُ بِهَذِهِ الآيَةِ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَهْيَ عَنِ المُنْكَرِ، وهو مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ إذا قامَ بِهِ قائِمٌ سَقَطَ عَنِ الغَيْرِ، ولِلُزُومِ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ شُرُوطٌ، مِنها أنْ يَكُونَ بِمَعْرُوفٍ لا بِتَخَرُّقٍ، فَقَدْ قالَ ﷺ: « "مَن كانَ آمِرًا بِمَعْرُوفٍ، فَلْيَكُنْ أمْرُهُ ذَلِكَ بِمَعْرُوفٍ"» ومِنها أنْ لا يَخافَ الآمِرُ أذىً يُصِيبُهُ، فَإنْ فَعَلَ مَعَ ذَلِكَ فَهو أعْظَمُ (p-٣١١)لِأجْرِهِ، وقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "مَن رَأى مِنكم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذَلِكَ أضْعَفُ الإيمانِ".» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والناسُ في تَغْيِيرِ المُنْكَرِ والأمْرِ بِالمَعْرُوفِ عَلى مَراتِبَ، فَفَرْضُ العُلَماءِ فِيهِ تَنْبِيهُ الحُكّامِ والوُلاةِ، وحَمْلُهم عَلى جادَّةِ العِلْمِ، وفَرْضُ الوُلاةِ تَغْيِيرُهُ بِقُوَّتِهِمْ وسُلْطانِهِمْ، ولَهُمْ: هي اليَدُ، وفَرْضُ سائِرِ الناسِ رَفْعُهُ إلى الحُكّامِ والوُلاةِ بَعْدَ النَهْيِ عنهُ قَوْلًا، وهَذا في المُنْكَرِ الَّذِي لَهُ دَوامٌ، وأمّا إنْ رَأى أحَدٌ نازِلَةً بَدِيهَةً مِنَ المُنْكَرِ كالسَلْبِ والزِنى ونَحْوِهِ فَيُغَيِّرُها بِنَفْسِهِ بِحَسَبِ الحالِ والقُدْرَةِ، ويَحْسُنُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أنْ يَحْتَمِلَ في تَغْيِيرِ المُنْكَرِ وإنْ نالَهُ بَعْضُ الأذى. ويُؤَيِّدُ هَذا المَنزَعَ أنَّ في قِراءَةِ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ وابْنِ مَسْعُودٍ وابْنِ الزُبَيْرِ: "يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، ويَسْتَعِينُونَ بِاللهِ عَلى ما أصابَهُمْ" فَهَذا وإنْ كانَ لَمْ يُثْبَتْ في المُصْحَفِ، فَفِيهِ إشارَةٌ إلى التَعَرُّضِ لِما يُصِيبُ عَقِيبَ الأمْرِ والنَهْيِ، كَما هي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنْكَرِ واصْبِرْ عَلى ما أصابَكَ﴾ [لقمان: ١٧]، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكم أنْفُسَكم لا يَضُرُّكم مَن ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: ١٠٥] مَعْناهُ: إذا لَمْ يُقْبَلْ مِنكم ولَمْ تَقْدِرُوا عَلى تَغْيِيرِ مُنْكَرٍ. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المَعْرُوفُ التَوْحِيدُ، والمُنْكَرُ: الكُفْرُ، والآيَةُ نَزَلَتْ في الجِهادِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا مَحالَةَ أنَّ التَوْحِيدَ والكُفْرَ هُما رَأْسُ الأمْرَيْنِ، ولَكِنْ ما نَزَلَ عن قَدْرِ التَوْحِيدِ والكُفْرِ، يَدْخُلُ في الآيَةِ ولابُدَّ. و"المُفْلِحُونَ" الظافِرُونَ بِبُغْيَتِهِمْ، وهَذا وعْدٌ كَرِيمٌ. (p-٣١٢)ثُمَّ نَهى اللهُ تَعالى هَذِهِ الأُمَّةَ عن أنْ يَكُونُوا كالمُتَفَرِّقِينَ مِنَ الأُمَمِ. واخْتَلَفَتْ عِبارَةُ المُفَسِّرِينَ في المُشارِ إلَيْهِمْ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي إشارَةٌ إلى كُلِّ مَنِ افْتَرَقَ في الأُمَمِ في الدِينِ فَأهْلَكَهُمُ الافْتِراقُ، وقالَ الحَسَنُ: هي إشارَةٌ إلى اليَهُودِ والنَصارى، وقالَ الزَجّاجُ: يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ أيْضًا إلى فِرَقِ اليَهُودِ وفِرَقِ النَصارى، ومَجِيءُ البَيِّناتِ هو بِبَعْثِ الرُسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ، وأسْنَدَ الفِعْلَ دُونَ عَلامَةٍ إلى البَيِّناتِ مِن حَيْثُ نَزَلَتْ مَنزِلَةَ البَيانِ، ومِن حَيْثُ لا حَقِيقَةَ لِتَأْنِيثِها. وباقِي الآيَةِ وعِيدٌ. وقَوْلُهُ: ﴿عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ يَعْنِي أنَّهُ أعْظَمُ مِن سِواهُ، ويَتَفاضَلُ هَذانِ العَرْضانِ بِأنَّ أحَدَهُما يَتَخَلَّلُهُ فُتُورٌ، وأمّا الجُزْءُ الفَرْدُ مِن هَذا وذَلِكَ فَسَواءٌ، هَذا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ أصْحابِنا الأُصُولِيِّينَ رَحِمَهُمُ اللهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب