الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَوَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا وإنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إلَيَّ مَرْجِعُكم فَأُنَبِّئُكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهم في الصالِحِينَ﴾ ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ فَإذا أُوذِيَ في اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ الناسِ كَعَذابِ اللهِ ولَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مَن رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إنّا كُنّا مَعَكم أوَلَيْسَ اللهِ بِأعْلَمَ بِما في صُدُورِ العالَمِينَ﴾ ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ المُنافِقِينَ﴾
قَوْلُهُ تَعالى: "وَصَّيْنا" الآيَةُ. رُوِيَ عن قَتادَةَ أنَّها نَزَلَتْ في سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ، (p-٦٢٧)وَذَلِكَ أنَّهُ هاجَرَ، فَحَلَفَتْ أُمُّهُ ألّا تَسْتَظِلَّ بِظِلٍّ حَتّى يَرْجِعَ إلَيْها ويَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، فَلَجَّ هو في هِجْرَتِهِ، ونَزَلَتِ الآيَةُ. وقِيلَ: بَلْ نَزَلَتْ في عَيّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ، وذَلِكَ أنَّهُ اعْتَراهُ في دِينِهِ نَحْوٌ مِن هَذا؛ إذْ خَدَعَهُ أبُو جَهْلٍ لَعَنَةُ اللهِ عَلَيْهِ ورَدَّهُ إلى أُمِّهِ.... الحَدِيثُ في كِتابِ السِيرَةِ. ولا مِرْيَةَ أنَّها نَزَلَتْ فِيمَن كانَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ يَشْقى بِجِهادِ أبَوَيْهِ في شَأْنِ الإسْلامِ والهِجْرَةِ، فَكَأنَّ القَصْدَ بِهَذِهِ الآيَةِ النَهْيُ عن طاعَةِ الأبَوَيْنِ في مِثْلِ هَذا الأمْرِ العَظِيمِ، ولَمّا كانَ بِرُّ الوالِدَيْنِ وطاعَتُهُما مِنَ الأمْرِ الَّتِي قَرَّرَتْها الشَرِيعَةُ وأكَّدَتْها، وكانَ مِنَ الأمْرِ القَوِيِّ المُلْزِمْ عِنْدَهُمْ، قَدَّمَ تَعالى عَلى النَهْيِ عن طاعَتِهِما في الشِرْكِ بِاللهِ قَوْلَهُ: ﴿وَوَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا﴾، عَلى مَعْنى: إنّا لا نُحِلُّ عُقُوقَ الوالِدَيْنِ، لَكِنّا لا نُسَلِّطُ عَلى طاعَةِ اللهِ تَعالى، لا سِيَّما في مَعْنى الإيمانِ والكُفْرِ.
وقَوْلُهُ: "حُسْنًا" يُحْتَمَلُ أنْ يَنْتَصِبَ عَلى المَفْعُولِ، وفي ذَلِكَ تَجَوُّزٌ، ويُسَهِّلُهُ كَوْنُهُ عامًّا لَمَعانٍ، كَما تَقُولُ: وصَّيْتُكَ خَيْرًا، أو وصَّيْتُكَ شَرًّا، عَبَّرَ بِذَلِكَ عن جُمْلَةِ ما قُلْتَ لَهُ، ويُحَصِّنُ ذَلِكَ دُونَ حَرْفِ الجَرِّ كَوْنُ حَرْفِ الجَرِّ في قَوْلِهِ: "بِوالِدَيْهِ"؛ لِأنَّ المَعْنى: ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِالحُسْنِ في فِعْلِهِ مَعَ والِدَيْهِ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ عَجِبْتُ مِن دَهْماءَ إذْ تَشْكُونا ومِن أبِي دَهْماءَ إذْ يُوصِينا ∗∗∗ خَيْرًا بِها فَكَأنَّنا جافَوْنا
(p-٦٢٨)وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَفْعُولُ الثانِي في قَوْلِهِ: "بِوالِدَيْهِ"، ويَنْتَصِبُ "حُسْنًا" بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: يُحْسِنُ حَسَنًا، ويَنْتَصِبُ انْتِصابَ المُصَدِّرِ، وقَرَأ عِيسى والجَحْدَرِيُّ: "حَسَنًا" بِفَتْحَتَيْنِ، وقالَ الجَحْدَرِيُّ: في الإمامِ مَكْتُوبٌ: "بِوالِدَيْهِ إحْسانًا"، قالَ أبُو حاتِمْ: يَعْنِي كالأحْقافِ، وقالَ الثَعْلَبِيُّ: في مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "إحْسانًا" وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ وعِيدٌ في طاعَةِ الوالِدَيْنِ في مَعْنى الكُفْرِ.
ثُمْ كَرَّرَ تَعالى التَمْثِيلَ بِحالَةِ المُؤْمِنِينَ لِيُحَرِّكَ النُفُوسَ إلى نَيْلِ مَراتِبِهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَنُدْخِلَنَّهم في الصالِحِينَ﴾ مُبالَغَةٌ، عَلى مَعْنى: الَّذِينَ هم في نِهايَةِ الصَلاحِ وأبْعَدِ غاياتِهِ، وإذا تَحَصَّلَ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذا الحُكْمُ تَحَصَّلَ ثَمَرُهُ، وجَزاؤُهُ هو الجَنَّةُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنَ الناسِ﴾ الآيَةُ إلى قَوْلِهِ: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ المُنافِقِينَ﴾، نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ المُسْلِمِينَ كانُوا بِمَكَّةَ مُخْتَفِينَ بِإسْلامِهِمْ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: فَلَمّا خَرَجَ كُفّارُ قُرَيْشٍ إلى بَدْرٍ أخْرَجُوا مَعَ أنْفُسِهِمْ طائِفَةً مِن هَؤُلاءِ، فَأُصِيبَ بَعْضُهُمْ، فَقالَ المُسْلِمُونَ: كانُوا أصْحابَنا وأُكْرِهُوا فاسْتَغْفَرُوا لَهُمْ، فَنَزَلَتْ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ ظالِمِي أنْفُسِهِمْ﴾ [النساء: ٩٧] الآيَةُ، قالَ: فَكَتَبَ المُسْلِمُونَ لِمَن بَقِيَ بِمَكَّةَ بِهَذِهِ الآيَةِ، وألّا عُذْرَ لَهُمْ، فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ المُشْرِكُونَ فَأعْطَوْهُمُ الفِتْنَةَ ورَدُّوهم إلى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمُ الآيَةُ: ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللهِ﴾ الآيَةُ، فَكَتَبَ المُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَحَزِنُوا ويَئِسُوا مِن كُلِّ خَيْرٍ، ثُمْ نَزَلَتْ فِيهِمْ: ﴿ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِن بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النحل: ١١٠]، فَكَتَبَ المُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وأنَّ اللهَ تَعالى قَدْ جَعَلَ لَكم مَخْرَجًا فَخَرَجُوا، فَلِحَقَهُمُ المُشْرِكُونَ (p-٦٢٩)فَقاتَلُوهُمْ، فَنَجا مَن نَجا، وقُتِلَ مَن قُتِلَ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿جَعَلَ فِتْنَةَ الناسِ﴾ في مُنافِقِينَ كَفَرُوا لَمّا أُوذُوا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِتْنَةَ الناسِ كَعَذابِ اللهِ﴾ أيْ: صَعُبَ عَلَيْهِ أذى الناسِ حِينَ صَدُّوهُ، وكانَ حَقُّهُ ألّا يَلْتَفِتَ إلَيْهِ، وأنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ في جَنْبِ نَجاتِهِ مِن عَذابِ اللهِ تَعالى. ثُمْ أزالَ تَعالى مَوْضِعَ تَعَلُّقِهِمْ ومُغالَطَتِهِمْ إنَّ جاءَ نَصْرٌ، ثُمْ قَرَّرَهم عَلى عِلْمِ اللهِ تَعالى بِما في صُدُورِهِمْ، أيْ: لَوْ كانَ يَقِينًا تامًّا وإسْلامًا خالِصًا لَما تَوَقَّفُوا ساعَةً، ولَرَكِبُوا كُلَّ هَوْلٍ إلى هِجْرَتِهِمْ ودارِ نَبِيِّهِمْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ المُنافِقِينَ﴾، تَفْسِيرُهُ عَلى حَدِّ ما تَقَدَّمَ في نَظِيرِهِ.
وهُنا انْتَهى المَدَنِيُّ في هَذِهِ السُورَةِ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ حُسۡنࣰاۖ وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۤۚ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ","وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَنُدۡخِلَنَّهُمۡ فِی ٱلصَّـٰلِحِینَ","وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَقُولُ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ فَإِذَاۤ أُوذِیَ فِی ٱللَّهِ جَعَلَ فِتۡنَةَ ٱلنَّاسِ كَعَذَابِ ٱللَّهِۖ وَلَىِٕن جَاۤءَ نَصۡرࣱ مِّن رَّبِّكَ لَیَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمۡۚ أَوَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَعۡلَمَ بِمَا فِی صُدُورِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ"],"ayah":"وَوَصَّیۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ بِوَ ٰلِدَیۡهِ حُسۡنࣰاۖ وَإِن جَـٰهَدَاكَ لِتُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۤۚ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق