الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهم وقُولُوا آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكم وإلَهُنا وإلَهُكم واحِدٌ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: "إلّا" عَلى الِاسْتِثْناءِ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "ألا" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ اللامِ، واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ بِهَذِهِ الآيَةِ. فَقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْناها: لا تُجادِلُوا مَن آمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ مِن أهْلِ الكِتابِ، فَكَأنَّهُ قالَ: "أهْلُ الكِتابِ المُؤْمِنِينَ"، ﴿إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ أيْ بِالمُوافَقَةِ فِيما حَدَّثُوكم بِهِ مِن أخْبارِ أوائِلِهِمْ، وغَيْرِ ذَلِكَ، وقَوْلُهُ تَعالى -عَلى هَذا التَأْوِيلِ-: ﴿إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ يُرِيدُ بِهِ مَن بَقِيَ عَلى كُفْرِهِ مِنهُمْ، كَمَن كَفَرَ وغَدَرَ مِن بَنِي قُرَيْظَةَ والنَضِيرِ وغَيْرِهِمْ، فالآيَةُ -عَلى هَذا- مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنسُوخَةٍ. (p-٦٥١)وَقالَ مُجاهِدٌ: المُرادُ بِأهْلِ الكِتابِ اليَهُودُ والنَصارى الباقُونَ عَلى دِينِهِمْ. أمَرَ اللهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ ألّا يُجادِلُوهم إلّا بِالأحْسَنِ: مِنَ الدُعاءِ إلى اللهِ تَعالى، والتَنْبِيهِ عَلى آياتِهِ؛ رَجاءَ إجابَتِهِمْ إلى الإيمانِ، لا عَلى طَرِيقِ الإغْلاظِ والمُخاشَنَةِ، وقَوْلُهُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ-: ﴿إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنهُمْ﴾ مَعْناهُ: ظَلَمُوكُمْ، وإلّا فَكُلُّهم ظَلَمَةٌ عَلى الإطْلاقِ، فَيُرادُ بِهِمْ مَن لَمْ يُؤَدِّ جِزْيَةً، ونَصْبَ الحَرْبِ، ومَن قالَ وصَرَّحَ بِأنَّ لِلَّهِ ولَدًا، أو لَهُ شَرِيكٌ، أو يَدُهُ مَغْلُولَةٌ، فالآيَةُ -عَلى هَذا- مَنسُوخَةٌ في مُهادَنَةِ مَن لَمْ يُحارِبْ، قالَ قَتادَةُ: هي مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِ اللهِ تَعالى: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ [التوبة: ٢٩] الآيَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والَّذِي يَتَوَجَّهُ في مَعْنى الآيَةِ إنَّما يَتَّضِحُ في مَعْرِفَةِ الحالِ في وقْتِ نُزُولِ الآيَةِ، وذَلِكَ أنَّ السُورَةَ مَكِّيَّةٌ مِن بَعْدِ الآياتِ العَشْرِ الأُوَلِ، ولَمْ يَكُنْ في ذَلِكَ الوَقْتِ قِتالٌ مَفْرُوضٌ، ولا طَلَبُ جِزْيَةٍ ولا غَيْرُ ذَلِكَ، وكانَتِ اليَهُودُ بِمَكَّةَ وفِيما جاوَرَها، فَرُبَّما وقَعَ بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ جِدالٌ واحْتِجاجٌ في أمْرِ الدِينِ وتَكْذِيبٌ، فَأمَرَ اللهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ ألّا يُجادِلُوهم بِالمُحاجَّةِ إلّا بِالحُسْنى دُعاءٌ إلى اللهِ تَعالى ومُلايَنَةٌ، ثُمُ اسْتَثْنى مَن ظَلَمَ مِنهُمُ المُؤْمِنِينَ، إمّا بِفِعْلٍ وإمّا بِقَوْلٍ، وإمّا بِإذايَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وإمّا بِإعْلانِ كُفْرٍ فاحِشٍ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: عُزَيْرُ ابْنُ اللهِ، ونَحْوُ هَذا، فَإنَّ هَذِهِ الصِفَةَ اسْتُثْنِيَ لِأهْلِ الإسْلامِ مُعارَضَتُها بِالخُرُوجِ مَعَها عَنِ الَّتِي هي أحْسَنُ، ثُمْ نُسِخَ هَذا بَعْدُ بِآيَةِ القِتالِ والجِزْيَةِ. وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقُولُوا آمَنّا﴾ الآيَةُ. قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: كانَ أهْلُ الكِتابِ يَقْرَؤُونَ التَوْراةَ بِالعِبْرانِيَّةِ، فَيُفَسِّرُونَها بِالعَرَبِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولُوا: ﴿آمَنّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنا وأُنْزِلَ إلَيْكم وإلَهُنا وإلَهُكم واحِدٌ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ "». ورَوى عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ أنَّ النَبِيَّ ﷺ قالَ: «لا تَسْألُوا أهْلَ (p-٦٥٢)الكِتابِ عن شَيْءٍ فَإنَّهم لَنْ يَهْدُوكم وقَدْ ضَلُّوا، إمّا أنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ وإمّا أنْ تُصَدِّقُوا بِباطِلٍ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب