الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿خَلَقَ اللهُ السَماواتِ والأرْضَ بِالحَقِّ إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿اتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ وأقِمِ الصَلاةَ إنَّ الصَلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ولَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ واللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ﴾
نَبَّهَ في ذِكْرِ خَلْقِ السَماواتِ والأرْضِ عَلى أمْرٍ يُوَقَعُ الذِهْنُ عَلى صِغَرِ قَدْرِ الأوثانِ (p-٦٤٨)وَكُلُّ مَعْبُودٍ مِن دُونِ اللهِ تَعالى، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: "بِالحَقِّ" أيْ: بِالواجِبِ النَيِّرِ، لا لِلْعَبَثِ واللَعِبِ، بَلْ لِيَدُلَّ عَلى سُلْطانِهِ، ويُثْبِتَ شَرائِعَهُ، ويَضَعَ الدَلائِلَ لِأهْلِها، ويَعُمُ المَنافِعَ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى عَدًّا.
ثُمْ أمَرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى نَبِيَّهُ ﷺ بِالخُضُوعِ لِأمْرِهِ، وتِلاوَةِ القُرْآنِ الَّذِي أُوحِيَ إلَيْهِ، وإقامَةِ الصَلاةِ، أيْ: إدامَتِها والقِيامِ بِحُدُودِها. ثُمْ أخْبَرَ -حُكْمًا مِنهُ- إنَّ الصَلاةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وذَلِكَ عِنْدِي بِأنَّ المُصَلِّيَ إذا كانَ عَلى الواجِبِ مِنَ الخُشُوعِ والإخْباتِ وتَذَكُّرِ اللهِ تَعالى وتَوَهُّمُ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وأنَّ قَلْبَهُ وإخْلاصَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ مَرْقُوبٌ، صَلَحَتْ لِذَلِكَ نَفْسُهُ وتَذَلَّلَتْ، وخامَرَها ارْتِقابُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، فاطَّرَدَتْ لِذَلِكَ في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ وانْتَهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، ولا يَكادُ يَفْتُرُ مِن ذَلِكَ حَتّى تُظَلِّلَهُ صَلاةٌ أُخْرى يَرْجِعُ بِها إلى أفْضَلِ حالَةٍ، وهَذا مَعْنى هَذا الإخْبارِ؛ لِأنَّ صَلاةَ المُؤْمِنِ هَكَذا يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ. ورُوِيَ عن بَعْضِ السَلَفِ أنَّهُ كانَ إذا قامَ إلى الصَلاةِ ارْتَعَدَ واصْفَرَّ لَوْنُهُ، فَكَلَّمَ في ذَلِكَ فَقالَ: إنِّي أقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، وحُقَّ لِي هَذا مَعَ مُلُوكِ الدُنْيا، فَكَيْفَ مَعَ مَلِكِ المُلُوكِ ؟
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَهَذِهِ صَلاةٌ تَنْهى -وَلا بُدَّ- عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، ومَن كانَتْ صَلاتُهُ دائِرَةً حَوْلَ الإجْزاءِ، لا خُشُوعَ فِيها ولا تَذَكُّرَ ولا فَضائِلَ، فَذَلِكَ يَتْرُكُ صاحِبُها مِن مَنزِلَتِهِ حَيْثُ كانَ، فَإنْ كانَ عَلى طَرِيقَةِ مَعاصٍ تُبْعِدُهُ مِنَ اللهِ تَعالى تَمادى عَلى بُعْدِهِ، وعَلى هَذا يَخْرُجُ الحَدِيثُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، والحَسَنِ، والأعْمَشِ، وهو قَوْلُهُمْ: مَن لَمْ تَنْهَهُ صِلاتُهُ عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إلّا بُعْدًا، وقَدْ رُوِيَ أنَّ الحَسَنَ (p-٦٤٩)أرْسَلَهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ، وذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحِ السَنَدِ، سَمِعْتُ أُبَيَّ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ: فَإذا قَدَّرْناهُ، ونَظَرْنا مَعْناهُ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ نَفْسَ صَلاةِ العاصِي تُبْعِدُهُ مِنَ اللهِ تَعالى حَتّى كَأنَّها مَعْصِيَةٌ، وإنَّما يَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلى أنَّها لا تُؤَثِّرُ في تَقْرِيبِهِ مِنَ اللهِ تَعالى، بَلْ تَتْرُكُهُ في حالِهِ ومَعاصِيهِ مِنَ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ والبُعْدِ، فَلَمْ تَزِدْهُ الصَلاةُ إلّا تَقْرِيرُ ذَلِكَ البُعْدِ الَّذِي كانَ سَبِيلُهُ، فَكَأنَّها بِعَّدَتْهُ حِينَ لَمْ تَكُفُّ بُعْدَهُ عَنِ اللهِ تَعالى. وقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: إنَّ فُلانًا كَثِيرُ الصَلاةِ، فَقالَ: إنَّها لا تَنْفَعُ إلّا مَن أطاعَها. وقَرَأ الرَبِيعُ بْنُ أنَسٍ: "إنَّ الصَلاةَ تَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ وتَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ". وقالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الصَلاةُ هُنا- القُرْآنُ، وقالَ حَمّادُ بْنُ أبِي سُلَيْمانَ، وابْنُ جُرَيْجٍ، والكَلْبِيُّ: إنَّ الصَلاةَ تَنْهى ما دُمْتَ فِيها.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ عُجْمَةٌ، وأيْنَ هَذا مِمّا رَوى أنَسُ بْنُ مالِكٍ ؟ قالَ: «كانَ فَتًى مِنَ الأنْصارِ يُصَلِّي مَعَ النَبِيِّ ﷺ، ولا يَدْعُ شَيْئًا مِنَ الفَواحِشِ والسَرِقَةِ إلّا رَكِبَهُ، فَقِيلَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقالَ: "إنَّ صَلاتَهُ سَتَنْهاهُ"، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ تابَ وصَلُحَتْ حالُهُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "ألَمْ أقُلْ لَكُمْ"؟»
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو الدَرْداءِ، وسَلْمانُ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو قُرَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنِ الصَحابَةِ أجْمَعِينَ: مَعْناهُ: ولَذِكْرُ اللهِ إيّاكم أكْبَرُ مِن ذِكْرِكم إيّاهُ، وقِيلَ: مَعْناهُ: ولَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ مَعَ المُداوَمَةِ عَلى الصَلاةِ في النَهْيِ عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، وقَتادَةُ: ولَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ مِن كُلِّ شَيْءٍ، وقِيلَ لِسَلْمانَ: أيُّ الأعْمالِ أفْضَلُ؟ فَقالَ: أما تَقْرَأُ القُرْآنَ: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ﴾، كَأنَّهُ يَحُضُّ عَلَيْهِ في هَذَيْنَ التَأْوِيلَيْنِ الأخِيرَيْنِ.
(p-٦٥٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وعِنْدِي أنَّ المَعْنى: ولَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ عَلى الإطْلاقِ، أيْ: هو الَّذِي يَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ والمُنْكَرِ، فالجُزْءُ الَّذِي مِنهُ في الصَلاةِ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ يَفْعَلُ في غَيْرِ الصَلاةِ؛ لِأنَّ الِانْتِهاءَ لا يَكُونُ إلّا مِن ذاكِرٍ مُراقِبٍ لَهُ، وثَوابُ ذَلِكَ الذِكْرِ أنْ يَذْكُرَهُ اللهُ تَعالى، كَما في الحَدِيثِ: «مَن ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي، ومَن ذَكَرَنِي في مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ في مَلَأٍ خَيْرٍ مِنهم». والحَرَكاتُ الَّتِي في الصَلاةِ لا تَأْثِيرَ لَها في نَهْيٍ، والذِكْرُ النافِعُ هو مَعَ العِلْمِ وإقْبالِ القَلْبِ وتَفَرُّغِهِ إلّا مِنَ اللهِ تَعالى، وأمّا ما لا يَتَجاوَزُ اللِسانَ فَفي رُتْبَةٍ أُخْرى، وذِكْرُ اللهِ تَعالى لِلْعَبْدِ هو إفاضَةُ الهُدى ونُورِ العِلْمِ عَلَيْهِ، وذَلِكَ ثَمَرَةٌ لِذِكْرِ العَبْدِ رَبَّهُ. قالَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة: ١٥٢]، وباقِي الآيَةِ ضَرْبٌ مِنَ التَوَعُّدِ والحَثِّ عَلى المُراقَبَةِ.
{"ayahs_start":44,"ayahs":["خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَةࣰ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ","ٱتۡلُ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ"],"ayah":"ٱتۡلُ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِنَ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَۖ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ وَلَذِكۡرُ ٱللَّهِ أَكۡبَرُۗ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَصۡنَعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











