الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلا أنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أو حَرِّقُوهُ فَأنْجاهُ اللهُ مِنَ النارِ إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿وَقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللهِ أوثانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكم في الحَياةِ الدُنْيا ثُمَّ يَوْمَ القِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكم بِبَعْضٍ ويَلْعَنُ بَعْضُكم بَعْضًا ومَأْواكُمُ النارُ وما لَكم مِن ناصِرِينَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: "جَوابَ" بِالنَصْبِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "جَوابُ" بِالرَفْعِ، وكَذَلِكَ سالِمْ (p-٦٣٧)الأفْطَسُ. وأخْبَرَ اللهُ تَعالى عنهم أنَّهم لَمّا بَيَّنَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ الحُجَجَ، وأوضَحَ أمْرَ الدِينِ، رَجَعُوا إلى الغَلَبَةِ، وعَدُّوا عن طَرِيقِ الِاحْتِجاجِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهم بِهِ قَبْلُ، فَتَآمَرُوا عَلى قَتْلِهِ وتَحْرِيقِهِ بِالنارِ، وأنْفَذُوا أمْرَ تَحْرِيقِهِ حَسَبَما قَدِ أُفِيضَ في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ، وأنْجاهُ اللهُ تَعالى مِن نارِهِمْ، وجَعَلَها عَلَيْهِ بَرْدًا وسَلامًا، قالَ كَعْبُ الأحْبار : لَمْ تَحْرِقِ النارُ إلّا الحَبَلَ الَّذِي أوثَقُوهُ بِهِ، وجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً وعِبْرَةً، ودَلِيلًا عَلى وحْدانِيَّتِهِ لِمَن شَرَحَ صَدْرَهُ ويَسَّرَهُ لِلْإيمانِ، أيْ: هَذا الصِنْفُ يَنْتَفِعُ بِالآيَةِ، والكُفّارُ هي عَلَيْهِمْ عَمًى وإنْ كانَتْ في نَفْسِها آيَةً لِلْكُلِّ. ثُمْ ذَكَرَ تَعالى أنَّ إبْراهِيمَ قَرَّرَهم عَلى أنَّ اتِّخاذَهُمُ الأوثانَ والأنْصابَ إنَّما كانَ اتِّباعًا مِن بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وحِفْظًا لِمَوَدّاتِهِمْ ومَحَبّاتِهِمُ الدُنْيَوِيَّةِ، وأنَّهم يَوْمَ القِيامَةِ يَجْحَدُ بَعْضُهم بَعْضًا ويَتَلاعَنُونَ؛ لِأنَّ تَوادَّهم كانَ عَلى غَيْرِ تَقْوًى، و﴿الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلا المُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: ٦٧]. وقَرَأ عاصِمْ -فِي رِوايَةِ الأعْمَشِ عن أبِي بَكْرٍ عنهُ-: "مَوَدَّةٌ" بِالرَفْعِ "بَيْنَكُمْ" بِالخَفْضِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمْ -فِي رِوايَةٍ أبِي بَكْرٍ - وأبُو عَمْرٍو -فِي رِوايَةٍ أبِي زَيْدٍ -: "مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ" بِالتَنْوِينِ والنَصْبِ، ونَصْبِ "بَيْنَ"، أمّا قِراءَةُ رَفْعِ "مَوَدَّةَ" فَوَجْهُهُما أنْ تَكُونَ "ما" بِمَعْنى "الَّذِي"، وفي قَوْلِهِ: "اتَّخَذْتُمْ" ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى "الَّذِي"، وهَذا الضَمِيرُ هو مَفْعُولٌ أوَّلُ لِـ "اتَّخَذْتُمْ"، و"أوثانًا" مَفْعُولٌ ثانٍ، و"مَوَدَّةٌ" خَبَرُ "إنَّ" في قِراءَةِ مَن نَوَّنَها، وفي قِراءَةِ مَن لَمْ يُنَوِّنْها. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ "ما" كافَّةً، ولا يَكُونُ في قَوْلِهِ: "اتَّخَذْتُمْ" ضَمِيرٌ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: "أوثانًا" مَفْعُولًا بِقَوْلِهِ: "اتَّخَذْتُمْ"، ثُمْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، ويُقَدِّرُ الثانِي: "آلِهَةً" أو نَحْوَهُ، كَما يُقَدِّرُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ﴾ [الأعراف: ١٥٢] أيْ: "إلَهًا" ﴿سَيَنالُهم غَضَبٌ﴾ [الأعراف: ١٥٢]، ويَكُونُ قَوْلُهُ: "مَوَدَّةٌ" خَبَرُ ابْتِداءٍ (p-٦٣٨)تَقْدِيرُهُ: "هُوَ مَوَدَّةٌ"، وفي هَذِهِ التَأْوِيلاتِ مَجازٌ واتِّساعٌ في تَسْمِيَةِ الأوثانِ مَوَدَّةً، أو يَكُونُ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ. وأمّا مَن نَصَبَ "مَوَدَّةً" فَعَلى أنَّ "ما" كافَّةٌ، وعَلى خُلُوِّ "اتَّخَذْتُمْ" مِنَ الضَمِيرِ، والِاقْتِصارُ عَلى المَفْعُولِ الواحِدِ كَما تَقَدَّمَ، ويَكُونُ نَصْبُ "المَوَدَّةَ" عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ. ومَن أضافَ "المَوَدَّةَ" إلى "البَيْنِ" في القِراءَتَيْنِ بِالنَصْبِ والرَفْعِ فَقَدْ تَجُوزُ في ذَلِكَ وأجْرى الظَرْفَ مَجْرى الأسْماءِ، ومَن نَصَبَ "بَيْنَكُمْ" في القِراءَتَيْنِ النَصْبُ والرَفْعُ- في "مَوَدَّةَ" فَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أنْ يَنْتَصِبَ انْتِصابَ الظُرُوفِ، ويَكُونُ مُتَعَلِّقًا بـِ "مَوَدَّةَ"، وكَذَلِكَ ﴿وَقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ﴾ ظَرْفٌ أيْضًا مُتَعَلِّقٌ بـِ "مَوَدَّةَ"، وهو مَصْدَرٌ عَمِلَ في ظَرْفَيْنِ مِن حَيْثُ افْتَرَقَ الزَمانُ والمَكانُ، ولَوْ كانَ لِواحِدٍ مِنهُما لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ، تَقُولُ: "رَأيْتُ زَيْدًا أمْسَ في السُوقِ"، ولا تَقُولُ: "رَأيْتُ زَيْدًا أمْسَ البارِحَةَ"؛ إلّا أنْ يَكُونَ أحَدُ الظَرْفَيْنِ جُزْءًا لِلْآخَرِ، تَقُولُ: "رَأيْتُ زَيْدًا أمْسَ عَشِيَّةً". ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ "بَيْنَكُمْ" عَلى أنَّهُ صِفَةُ المَوَدَّةِ، وهُنا مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ، تَقْدِيرُهُ: "مَوَدَّةً ثابِتَةً بَيْنَكُمْ"، وفي الظَرْفِ ضَمِيرٌ عائِدٌ عَلى "مَوَدَّةَ"، لَمّا حُذِفَتْ "ثابِتَةً" اسْتَقَرَّ الضَمِيرُ في الظَرْفِ نَفْسِهِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَقالَ إنَّما اتَّخَذْتُمْ﴾ ظَرْفٌ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَمِيرِ الكائِنِ في "بَيْنِكُمْ" بَعْدَ حَذْفِ "ثابِتَةٍ"، وهَذِهِ الحالُ مُتَعَلِّقَةٌ بـِ "مَوَدَّةَ"، وجازَ تَعَلُّقُها بِها وهي قَدْ وُصِفَتْ لِأنَّ مَعْنى الفِعْلِ فِيها، وإنْ وُصِفَتْ فَلا يُمْتَنَعُ أنْ يَعْمَلَ مَعْنى الفِعْلِ إلّا في المَفْعُولِ، فَأمّا في الظَرْفِ وفي الحالِ فَيُعْمَلُ، قالَ مَكِّيٌّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ " في الحَياةِ " صِفَةٌ ثابِتَةٌ لـِ "مَوَدَّةَ"، ويَكُونُ فِيها مُقَدَّرٌ "مُسْتَقِرَّةٌ"، وفِيها ضَمِيرٌ ثانٍ عائِدٌ إلى "مَوَدَّةَ"، فالتَقْدِيرُ -عَلى هَذا- مَوَدَّةُ بَيْنِكم مُسْتَقِرَّةٌ في الحَياةِ الدُنْيا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "مَوَدَّةَ" في قِراءَةِ مَن نَصَبَ مَفْعُولًا ثانِيًا بِقَوْلِهِ: "اتَّخَذْتُمْ"، ويَكُونُ في ذَلِكَ اتِّساعٌ، فَتَأمَّلْهُ. وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ: "مَوَدَّةَ بَيْنِهِمْ" بِالهاءِ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ "إنَّما مَوَدَّةُ بَيْنِكُمْ". (p-٦٣٩)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب