الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا ولْنَحْمِلْ خَطاياكم وما هم بِحامِلِينَ مِن خَطاياهم مِن شَيْءٍ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالا مَعَ أثْقالَهم ولَيُسْألُنَّ يَوْمَ القِيامَةِ عَمّا كانُوا يَفْتَرُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا إلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلا خَمْسِينَ عامًا فَأخَذَهُمُ الطُوفانُ وهم ظالِمُونَ﴾ ﴿فَأنْجَيْناهُ وأصْحابَ السَفِينَةِ وجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾
رُوِيَ أنَّ قائِلَ هَذِهِ المَقالَةِ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ، وقِيلَ: بَلْ كانَتْ شائِعَةً مِن كُفّارِ قُرَيْشٍ، قالُوا لِأتْباعِ النَبِيِّ ﷺ: ادْخُلُوا في أمْرِنا، وأقِرُّوا بِآلِهَتِنا واعْبُدُوها، ونَحْنُ لِيَقِينِنا أنَّهُ لا بَعْثَ بَعْدَ المَوْتِ ولا رُجُوعَ نَضْمَنُ لَكم حَمْلَ خَطاياكُمْ، ونَحْمِلُها عنكم فِيما دَعَوْناكم إلَيْهِ إنْ كانَ في ذَلِكَ دَرْكٌ كَما تَزْعُمُونَ أنْتُمْ، وقَوْلُهُمْ: "وَلْنَحْمِلْ" إخْبارٌ أنَّهم يَحْمِلُونَ خَطاياهم عَلى جِهَةِ التَشْبِيهِ بِالنَقْلِ، ولَكِنَّهم أخْرَجُوهُ في صِيغَةِ الأمْرِ لِأنَّها أوجَبُ وأشَدُّ تَأْكِيدًا في نَفْسِ السامِعِ مِنَ المَجازاتِ، وهَذا نَحْوُ قالَ الشاعِرُ:
؎ فَقُلْتُ ادْعِي وأدْعُ فَإنَّ أنْدى لِصَوْتٍ أنْ يُنادِيَ داعِيانِ
(p-٦٣٠)وَلِكَوْنِهِ خَبَرًا حَسُنَ تَكْذِيبُهم فِيهِ، فَأخْبَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ باطِلٌ، وأنَّهم لَوْ فَعَلُوهُ لَمْ يُتَحَمَّلْ عن أحَدٍ مِن هَؤُلاءِ المُغْتَرِّينَ بِهِمْ شَيْءٌ مِن خَطاياهُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "وَلْنَحْمِلْ" بِجَزْمِ اللامِ، وقَرَأ عِيسى ونُوحٌ القارِي: "وَلِنَحْمِلْ" بِكَسْرِ اللامِ. وقَرَأ داوُدُ بْنُ أبِي هِنْدٍ: "مِن خَطَيِهِمْ" بِكَسْرِ الياءِ وفَتْحِ الطاءِ، وحَكى عنهُ أبُو عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأ: "مِن خَطِيئاتِهِمْ" بِكَسْرِ الطاءِ وهَمْزَةٍ وتاءٍ بَعْدَ الألِفِ. وقالَ مُجاهِدٌ: الحَمْلُ هو مِنَ الحَمالَةِ لا مِنَ الحَمْلِ عَلى الظَهْرِ.
ثُمْ أخْبَرَ تَعالى عن أُولَئِكَ الكَفَرَةِ أنَّهم يَحْمِلُونَ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ، أيْ: أثْقالًا مِن كُفْرِهِمُ الَّذِي يَخْتَرِعُونَهُ ويَتَلَبَّسُونَ بِهِ، ﴿وَأثْقالا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ يُرِيدُ: ما يَلْحَقُهم مِن أعْوانِهِمْ وأتْباعِهِمْ، فَإنَّهُ يَلْحَقُ بِكُلِّ داعٍ إلى ضَلالَةٍ كِفْلٌ مِنها حَسَبَ الحَدِيثِ المَشْهُورِ، «أيُّما داعٍ إلى هُدًى فاتُّبِعَ عَلَيْهِ فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِن أجْرِهِمْ شَيْئًا، وأيُّما داعٍ دَعا إلى ضَلالَةٍ»..... الحَدِيثُ.
(p-٦٣١)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنَّما كانَتْ مَعَ أثْقالِهِمْ لِكَوْنِها بِسَبَبِ غَيْرِهِمْ وعن غَيْرِ كُفْرٍ تَلْبَّسُوهُ، فَرَّقَ بَيْنَها وبَيْنَ أثْقالِهِمْ، ولَمْ يَنْسِبْها إلى غَيْرِهِمْ، بَلْ جَعَلَها في رُتْبَةٍ أُخْرى فَقَطْ، فَهم فِيها إنَّما يَزِرُونَ بِوِزْرِ أنْفُسِهِمْ، وقَدْ يَتَرَتَّبُ حَمْلُ أثْقالِ الغَيْرِ بِما ورَدَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: «فَإنْ لَمْ يَبْقَ لِلظّالِمْ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ المَظْلُومِ فاطَّرَحَ فَطُرِحَ عَلَيْهِ». وقَوْلُهُ تَعالى: "وَلَيُسْئَلُنَّ" عَلى جِهَةِ التَوْبِيخِ والتَقْرِيعِ، لا عَلى جِهَةِ الِاسْتِفْهامِ والِاسْتِعْلامِ، و"يَفْتَرُونَ" مَعْناهُ: يَخْتَلِقُونَ مِنَ الكُفْرِ ودَعْوى الصاحِبَةِ والوَلَدِ وغَيْرِ ذَلِكَ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ أرْسَلْنا نُوحًا﴾ الآيَةُ. قِصَّةٌ فِيها تَسْلِيَةٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ عَمّا تَضَمَّنَتْهُ الآياتُ قَبْلَها مِن تَعَنُّتِ قَوْمِهِ، وفِتْنَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وغَيْرِ ذَلِكَ، وفِيها وعِيدٌ لَهم بِتَمْثِيلِ أمْرِهِمْ بِأمْرِ قَوْمِ نُوحٍ، والواوُ في قَوْلِهِ "وَلَقَدْ" عاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلامٍ عَلى جُمْلَةِ كَلامٍ، والقَسَمُ فِيها بِعِيدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أرْسَلْنا"، "فَلَبِثَ"، هَذا العَطْفُ بِالفاءِ يَقْتَضِي ظاهِرُهُ أنَّهُ لَبِثَ هَذِهِ المُدَّةَ رَسُولًا يَدْعُو، وقَدْ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ المُدَّةُ المَذْكُورَةُ مُدَّةَ إقامَتِهِ، مِن لَدُنْ مَوْلِدِهِ إلى غَرَقِ قَوْمِهِ، وأمّا عَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ فاخْتُلِفَ في سِنِّهِ الَّتِي بُعِثَ عِنْدَها، فَقِيلَ: أرْبَعُونَ، وقِيلَ: ثَمانُونَ، وقالَ عَوْنُ بْنُ أبِي شَدّادٍ: ثَلاثُمِائَةٍ وخَمْسُونَ، ولِذَلِكَ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ وفاتُهُ عَلَيْهِ السَلامُ عِنْدَ غَرَقِ قَوْمِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَسِيرٍ، (p-٦٣٢)وَقَدْ رُوِيَ أنَّهُ عُمِّرَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاثَمِائَةٍ وخَمْسِينَ عامًا، وأنَّهُ عاشَ ألْفَ سَنَةٍ وسِتَّمِائَةِ سَنَةٍ وخَمْسِينَ سَنَةٍ. وقَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿فَأخَذَهُمُ الطُوفانُ﴾ يَقْتَضِي أنَّهُ أخَذَ قَوْمَهُ فَقَطْ، وقَدِ اخْتُلِفَ في ذَلِكَ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما غَرِقَ في الطُوفانِ طائِفَةٌ مِنَ الأرْضِ وهي المُخْتَصَّةُ بِقَوْمِ نُوحٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ -هِيَ الجُمْهُورُ-: إنَّما غَرِقَتِ المَعْمُورَةُ كُلُّها.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا هو ظاهِرُ الأمْرِ؛ لِاتِّخاذِهِ السَفِينَةَ، ولِبَعْثِهِ الطَيْرَ تَرْتادُ زَوالَ الماءِ، ولِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الدَلائِلِ، وبَقِيَ أنْ يُعْتَرَضَ هَذا بِأنْ يُقالَ: كَيْفَ غَرِقَ الجَمِيعُ والرِسالَةُ إلى البَعْضِ؟ فالوَجْهُ في ذَلِكَ أنْ يُقالَ: إنَّ اخْتِصاصَ نَبِيٍّ بِأُمَّةٍ لَيْسَ هو بِألّا يَهْدِيَ غَيْرَها، ولا يَدْعُوَها إلى تَوْحِيدِ اللهِ تَعالى، وإنَّما هو بِألّا يَأْخُذَ بِقَتْلِ غَيْرِها، ولا يَبُثَّ العِباداتِ فِيهِمْ، ولَمْ يَكُنِ الناسُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرِينَ بِحُكْمِ القُرْبِ مِن آدَمَ عَلَيْهِ السَلامُ، فَلا مَحالَةَ أنَّ دُعاءَهُ إلى تَوْحِيدِ اللهِ تَعالى قَدْ كانَ بَلَغَ الكُلَّ، فَنالَهُمُ الغَرَقُ لِإعْراضِهِمْ وتَمادِيهِمْ.
و"الطُوفانُ": العَظِيمُ الطامِّي، ويُقالُ ذَلِكَ لِكُلِّ طامٍّ خَرَجَ عَنِ العادَةِ مِن ماءٍ أو نارٍ أو مَوْتٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ أفْناهم طُوفانُ مَوْتٍ جارِفٌ
و"طُوفانٌ" وزْنُهُ فُعْلانٌ بِناءُ مُبالَغَةٍ مِن: طافَ يَطُوفُ إذا عَمَّ مِن كُلِّ جِهَةٍ، ولَكِنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمالُهُ في الماءِ خاصَّةً، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم ظالِمُونَ﴾ يُرِيدُ: بِالشِرْكِ.
(p-٦٣٣)وَ " أصْحابَ السَفِينَةِ " تَقَدَّمَ في غَيْرِ هَذِهِ السُورَةِ الخِلافُ في عَدَدِهِمْ، وهم بَنُوهُ وقَوْمٌ آمَنُوا، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "وَجَعَلْناها" يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ عَلى السَفِينَةِ، و"الآيَةُ" هُنا العِبْرَةُ والعَلامَةُ عَلى قُدْرَةِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في شِدَّةِ بَطْشِهِ، قالَ قَتادَةُ: أبْقاها آيَةً عَلى الجُودِيِّ.
{"ayahs_start":12,"ayahs":["وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّبِعُوا۟ سَبِیلَنَا وَلۡنَحۡمِلۡ خَطَـٰیَـٰكُمۡ وَمَا هُم بِحَـٰمِلِینَ مِنۡ خَطَـٰیَـٰهُم مِّن شَیۡءٍۖ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ","وَلَیَحۡمِلُنَّ أَثۡقَالَهُمۡ وَأَثۡقَالࣰا مَّعَ أَثۡقَالِهِمۡۖ وَلَیُسۡـَٔلُنَّ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ عَمَّا كَانُوا۟ یَفۡتَرُونَ","وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَلَبِثَ فِیهِمۡ أَلۡفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمۡسِینَ عَامࣰا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمۡ ظَـٰلِمُونَ","فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَصۡحَـٰبَ ٱلسَّفِینَةِ وَجَعَلۡنَـٰهَاۤ ءَایَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَصۡحَـٰبَ ٱلسَّفِینَةِ وَجَعَلۡنَـٰهَاۤ ءَایَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق