الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ويْلَكم ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ولا يُلَقّاها إلا الصابِرُونَ﴾ ﴿فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الأرْضَ فَما كانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وما كانَ مِن المُنْتَصِرِينَ﴾ ﴿وَأصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ ويْكَأنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ ويَقْدِرُ لَوْلا أنْ مِن اللهَ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا ويْكَأنَّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ﴾ أخْبَرَ تَعالى عَنِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والمَعْرِفَةَ بِاللهِ تَعالى وبِحَقِّ طاعَتِهِ والإيمانِ بِهِ أنَّهم زَجَرُوا الأغْمارَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا حالَ قارُونَ، وحَمَلُوهم عَلى الطَرِيقَةِ المُثْلى مِن أنَّ النَظَرَ والتَمَنِّيَ إنَّما يَكُونُ في أُمُورِ الآخِرَةِ، وأنَّ حالَةَ المُؤْمِنِ العامِلِ الَّذِي يَنْتَظِرُ ثَوابَ اللهِ خَيْرٌ مِن حالِ كُلِّ ذِي دُنْيا. (p-٦١٦)ثُمْ أخْبَرَ تَعالى عن هَذِهِ النَزْعَةِ وهَذِهِ القُوَّةِ في الخَيْرِ في الدِينِ أنَّهُ لا يُلَقّاها، أيْ: لا يُمَكَّنُ مِنها ويُخَوَّلُها إلّا الصابِرُ عَلى طاعَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وعن شَهَواتِ نَفْسِهِ، وهَذا هو جِماعُ الخَيْرِ كُلِّهِ. والضَمِيرُ في "يُلَقّاها" عائِدٌ عَلى ما لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ ذِكْرٌ مِن حَيْثُ الكَلامُ دالٌّ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرى: ﴿تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢]، و﴿كُلُّ مَن عَلَيْها فانٍ﴾ [الرحمن: ٢٦]. وقالَ الطَبَرِيُّ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى الكَلِمَةِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَن آمَنَ وعَمِلَ صالِحًا﴾، أيْ: لا يُلَقّى هَذِهِ الكَلِمَةَ إلّا الصابِرُونَ، وعنهم تَصْدُرُ. ورُوِيَ في الخَسْفِ بِقارُونَ ودارِهِ «أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لَمّا أمَضَّهُ فِعْلَ قارُونَ بِهِ، وتَعَدِّيهِ عَلَيْهِ، ورَمْيَهُ بِأمْرِ المَرْأةِ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِن فِعْلِهِ، اسْتَجارَ اللهَ تَعالى وبَكى وطَلَبَ النُصْرَةَ، فَأوحى اللهُ تَعالى إلَيْهِ: لا تَهْتَمَّ فَإنِّي أمَرْتُ الأرْضَ أنْ تُطِيعَكَ في قارُونَ وأهْلِهِ وخاصَّتِهِ وأتْباعِهِ، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لِلْأرْضِ: خُذِيهِمْ، فَأخَذَتْ مِنهم إلى الرُكَبِ، فاسْتَغاثُوا بِمُوسى، يا مُوسى، فَقالَ: خُذِيهِمْ، فَأخَذَتْهم شَيْئًا فَشَيْئًا، وهم يَسْتَغِيثُونَ بِهِ كُلَّ مَرَّةٍ، وهو يُلَجُّ إلى أنْ تَمَّ الخَسْفُ بِهِمْ، فَأوحى اللهُ تَعالى إلَيْهِ: يا مُوسى، اسْتَغاثُوا بِكَ فَلَمْ تَرْحَمْهُمْ، لَوْ بِي اسْتَغاثُوا وإلَيَّ تابُوا لِرَحْمَتُهم وكَشَفْتُ ما بِهِمْ». وقالَ قَتادَةُ، ومالِكُ بْنُ دِينارٍ: «رُوِيَ لَنا أنَّهُ يُخْسَفُ بِهِ كُلَّ يَوْمٍ قامَةً فَهو يَتَجَلْجَلُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ». و"الفِئَةُ": الجَماعَةُ الناصِرَةُ الَّتِي يَفِيءُ إلَيْها الإنْسانُ الطالِبُ لِلنُّصْرَةِ. وقِصَّةُ قارُونَ هي بَعْدَ جَوازِهِمُ اليَمَّ؛ لِأنَّ الرُواةَ ذَكَرُوا أنَّهُ كانَ مِمَّنْ حَفِظَ التَوْراةَ، وكانَ يَقْرَؤُها. ثُمْ أخْبَرَ تَعالى عن حالِ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالأمْسِ، ونَدَمِهِمْ واسْتِشْعارِهِمْ أنَّ الحَوْلَ والقُوَّةَ لِلَّهِ تَعالى. وقَوْلُهُ: ﴿وَيْكَأنَّ﴾ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلِ أنَّ "وَيْ" حَرْفُ تَنْبِيهٍ، وهي مُنْفَصِلَةٌ عن "كَأنَّ"، لَكِنْ أُضِيفَتْ في الكِتابِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمالِ، [والمَعْنى أنَّ القَوْمَ انْتَبَهُوا فَتَكَلَّمُوا عَلى قَدْرِ عِلْمِهِمْ، أو نُبِّهُوا فَقِيلَ لَهُمْ: أما يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ هَذا عِنْدَكم هَكَذا]، (p-٦١٧)فَقالُوا عَلى جِهَةِ التَعَجُّبِ والتَنَدُّمْ: فَإنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِزْقَ. وقالَ أبُو حاتِمْ وجَماعَةٌ مِنَ النَحَوِيِّينَ: "وَيْكَ" هي ويْلَكَ، حُذِفَتْ لامُهُ وجَرَتْ في الكَلامِ كَذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُ عنتَرَةَ: ؎ ولَقَدْ شَفى نَفْسِي وأبَرَّ سُقْمَها قِيلُ الفَوارِسِ: ويْكَ عنتَرُ أقْدِمْ فَكَأنَّ المَعْنى: ويْلَكَ، اعْلَمْ أنَّ اللهَ، ونَحْوَ هَذا مِنَ الإضْمارِ لِلْفِعْلِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ مِنَ النَحْوِيِّينَ: "وَيْكَأنَّ" بِجُمْلَتِها دُونَ تَقْدِيرِ انْفِصالِ كَلِمَةٍ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: ألَمْ تَرَ أنَّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويَقْوى الِانْفِصالُ فِيها عَلى ما قالَهُ سِيبَوَيْهِ ؛ لِأنَّها تَجِيءُ مَعَ "أنَّ" ومَعَ "أنْ"، وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎ ويْ كَأنْ مَن يَكُنْ لَهُ نَشَبُّ يُحْـ ∗∗∗ ـبَبْ ومَن يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرِّ (p-٦١٨)وَهَذا البَيْتُ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ: "لَوْلا مَنَّ اللهُ" بِحَذْفِ "أنْ"، ورُوِيَ عنهُ: "لَوْلا مَنُّ" بِرَفْعِ النُونِ، وبِالإضافَةِ إلى "اللهِ". وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لَخُسِفَ" بِضَمِّ الخاءِ وكَسْرِ السِينِ، وقَرَأ عاصِمْ بِفَتْحِ الخاءِ والسِينِ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "لانَخُسِفَ" كَأنَّهُ فِعْلٌ مُضارِعٌ أُرِيدَ بِهِ أنَّ الأرْضَ كانَتْ مُنْفَعِلَةً، ورُوِيَ عَنِ الكِسائِيِّ أنَّهُ كانَ يَقِفُ عَلى "وَيْ"، ويَبْتَدِئُ "كَأنَّ"، ورُوِيَ عنهُ الوَصْلُ كالجَماعَةِ، ورَوِيَ عن أبِي عَمْرٍو أنَّهُ كانَ يَقِفُ عَلى "وَيْكَ"، ويَبْتَدِئُ "إنَّ اللهَ"، وعَلى هَذا المَعْنى قالَ الحَسَنُ: إنْ شِئْتَ: "وَيْكَ أنَّ" أو "وَيْكَ إنَّ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وبِكَسْرِها، فَكَذَلِكَ في "وَيْكَأنَّهُ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب