الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ قارُونَ كانَ مِن قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وآتَيْناهُ مِن الكُنُوزِ ما إنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالعُصْبَةِ أُولِي القُوَّةِ إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ﴾ ﴿وابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدارَ الآخِرَةَ ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُنْيا وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ ولا تَبْغِ الفَسادَ في الأرْضِ إنَّ اللهُ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ﴾ قارُونُ: اسْمٌ أعْجَمِيٌّ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْصَرِفْ. واخْتَلَفَ الناسُ في قَرابَةِ قارُونَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَقالَ ابْنُ إسْحاقٍ: هو عَمُّهُ، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، وإبْراهِيمُ النَخَعِيُّ: هو ابْنُ عَمِّهِ، وهَذا أشْهَرُ، وقِيلَ: ابْنُ خالَتِهِ، فَهو بِإجْماعٍ رَجُلٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، كانَ مِمَّنْ آمَنَ (p-٦٠٩)بِمُوسى، وحَفِظَ التَوْراةَ، وكانَ مَن أقْرَأِ الناسِ لَها، وكانَ عِنْدَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ مِن عُبّادِ المُؤْمِنِينَ، ثُمْ لَحِقَهُ الزَهْوُ والإعْجابُ، فَبَغى عَلى قَوْمِهِ بِأنْواعٍ مِنَ البَغْيِ، فَمِن ذَلِكَ كُفْرُهُ بِمُوسى واسْتِخْفافُهُ بِهِ، ومُطالَبَتُهُ لَهُ بِأنْ يَجْعَلَ لَهُ شَيْئًا، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: إنَّهُ عَمَدَ إلى امْرَأةٍ مُومِسَةٍ ذاتِ جَمالٍ، وقالَ لَها: أنا أُحْسِنُ إلَيْكَ، وأحْفَظُكَ في أهْلِي عَلى أنْ تَجِيئِي في مَلَأٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ عِنْدِي فَتَقُولِي: يا قارُونُ اكْفِنِي أمْرَ مُوسى فَإنَّهُ يَتَعَرَّضُ في نَفْسِي، فَجاءَتِ المَرْأةُ، فَلَمّا وقَفَتْ عَلى المَلَأِ أحْدَثَ اللهُ تَعالى لَها تَوْبَةً، فَقالَتْ: يا بَنِي إسْرائِيلَ، إنَّ قارُونَ قالَ لِي كَذا وكَذا، فَفَضَحَتْهُ في جَمِيعِ القِصَّةِ، وبَرَّأ اللهُ بِقُدْرَتِهِ نَبِيَّهُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ مِن مُطالَبَتِهِ، وقِيلَ: بَلْ قالَتِ المَرْأةُ ذَلِكَ عن مُوسى، فَلَمّا بَلَغَهُ الخَبَرُ وقَفَ المَرْأةَ بِمَحْضَرٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فَقالَتْ: يا نَبِيَّ اللهِ، كَذَبْتُ أنا عَلَيْكَ، وإنَّما دَفَعَنِي قارُونُ إلى هَذِهِ المَقالَةِ. وكانَ مِن بَغْيِهِ أنَّهُ زادَ في ثِيابِهِ شِبْرًا عَلى ثِيابِ الناسِ، قالَهُ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَصْدُرُ عَمَّنْ فَسَدَ اعْتِقادُهُ. وكانَ مِن أعْظَمِ الناسِ مالًا، وسُمِّيَتْ أمْوالُهُ كُنُوزًا إذْ كانَ مُمْتَنِعًا مِن أداءِ الزَكاةِ، وبِسَبَبِ ذَلِكَ عادى مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أوَّلَ عَداوَتِهِ. والمَفاتِيحُ: ظاهِرُها أنَّها الَّتِي يُفْتَحُ بِها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِها الخَزائِنَ والأوعِيَةَ الكِبارَ، قالَهُ الضَحّاكُ: لِأنَّ المِفْتاحَ في كَلامِ العَرَبِ الخِزانَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأكْثَرَ المُفَسِّرُونَ في شَأْنِ قارُونَ، فَرُوِيَ عن خَيْثَمَةَ أنَّهُ قالَ: نَجِدُ في الإنْجِيلِ مَكْتُوبًا: (إنَّ مَفاتِيحَ قارُونَ كانَتْ مِن جُلُودِ الإبِلِ، وكانَ المِفْتاحُ مِن نِصْفِ شِبْرٍ، وكانَتْ وِقْرَ سِتِّينَ بَغْلًا أو بَعِيرًا لِكُلِّ مِفْتاحٍ كَنْزٌ). قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُوِيَ غَيْرُ هَذا مِمّا يَقْرُبُ مِنهُ، ذَلِكَ كُلُّهُ ضَعِيفٌ، والنَظَرُ يَشْهَدُ بِفَسادِ هَذا، ومَن كانَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَعْضَها مِن بَعْضٍ؟ وما الداعِي لِهَذا، وفي المُمْكِنِ أنْ تَرْجِعَ كُلُّها إلى (p-٦١٠)ما يُحْصى ويُقْدَرُ عَلى حَمْلِهِ بِسُهُولَةٍ؟ وكانَ يَلْزَمُ -عَلى هَذا- أنْ تَكُونَ "مَفاتِيحَ" بِياءٍ، وهي قِراءَةُ الأعْمَشِ، والَّذِي يُشْبِهُ هُوَ: إمّا أنْ تَكُونَ المَفاتِيحُ مِنَ الحَدِيدِ ونَحْوِهِ، وعَلى هَذا تَنُوءُ بِالعُصْبَةِ؛ إذْ كانَتْ كَثِيرَةً لِكَثْرَةِ مَخازِنِهِ، أو تَكُونَ "المَفاتِحُ" الخَزائِنَ، قالَ أبُو صالِحٍ: كانَتْ خَزائِنُهُ تُحْمَلُ عَلى أرْبَعِينَ بَغْلًا. وأمّا قَوْلُهُ: "تَنُوءُ" فَمَعْناهُ: تَنْهَضُ بِتَحامُلٍ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ يَصِفُ رامِيًا: ؎ حَتّى إذا ما التَأمَتْ مَفاصِلُهُ وناءَ في شِقِّ الشَمالِ كاهِلُهُ والوَجْهُ أنْ يُقالَ: إنَّ العُصْبَةَ تَنُوءُ بِالمَفاتِيحِ المُثْقِلَةِ لَها، وكَذَلِكَ قالَ كَثِيرٌ مِنَ المُتَأوِّلِينَ: إنَّ المُرادَ هَذا، لِكِنَّهُ قَلْبٌ كَما تَفْعَلُ العَرَبُ كَثِيرًا، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ فَدَيْتُ بِنَفْسِهِ نَفْسِي ومالِي ∗∗∗ وما آلُوكُ إلّا ما أُطِيقُ (p-٦١١)وَقَوْلُ الآخَرِ: ؎ وتَرْكَبُ خَيْلًا لا هَوادَةَ بَيْنِها ∗∗∗ وتَشْقى الرِماحُ بِالضَياطِرَةِ الحُمْرِ وهَذا البَيْتُ لا حُجَّةَ فِيهِ؛ إذْ يَتَّجِهُ عَلى وجْهِهِ فَتَأمَّلْهُ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ الآخَرِ: ؎ ما كُنْتَ في الحَرْبِ العَوانِ مُغَمَّرًا ∗∗∗ إذْ شَبَّ حَرُّ وقُودِها أجْذالَها وقالَ سِيبَوَيْهِ والخَلِيلُ: التَقْدِيرُ: لَتُنِيءُ العُصْبَةَ، فَجُعِلَ بَدَلُ ذَلِكَ تَعْدِيَةَ الفِعْلِ بِحَرْفِ الجَرِّ، كَما تَقُولُ: ناءَ الحِمْلُ وأنْأتْهُ ونُؤْتُ بِهِ بِمَعْنى: جَعَلَتْهُ يَنُوءُ، والعَرَبُ تَقُولُ: ناءَ الحِمْلُ بِالبَعِيرِ إذا أثْقَلَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُسْنَدَ "تَنُوءُ" إلى المَفاتِيحِ مَجازًا؛ لِأنَّها تَنْهَضُ بِتَحامُلٍ إذا فَعَلَ ذَلِكَ الَّذِي يَنْهَضُ بِها، وهَذا مُطَّرِدٌ في قَوْلِهِمْ: ناءَ الحِمْلُ بِالعِيرِ، ونَحْوِهِ، فَتَأمَّلْهُ. (p-٦١٢)واخْتَلَفَ الناسُ في "العُصْبَةِ"، كَمْ هِيَ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ثَلاثَةٌ، وقالَ قَتادَةُ: العُصْبَةُ: مِنَ العَشْرَةِ إلى الأرْبَعِينَ، وقالَ مُجاهِدٌ: خَمْسَةَ عَشَرَ، وقِيلَ: أحَدَ عَشَرَ حَمْلًا عَلى إخْوَةِ يُوسُفَ، وقِيلَ: أرْبَعُونَ. وقَرَأ بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ: "لَيَنُوءُ" بِالياءِ، ووَجَّهَها أبُو الفَتْحِ عَلى أنَّهُ يَقْرَأُ: "مَفاتِحَهُ" جَمْعًا، وذَكَرَ أبُو عَمْرِو الدانِي أنَّ بُدَيْلَ بْنَ مَيْسَرَةَ قَرَأ: "ما إنَّ مِفْتاحَهُ" عَلى الإفْرادِ، فَيُسْتَغْنى عَلى هَذا عن تَوْجِيهِ أبِي الفَتْحِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: "فَبَغى"، ونَهَوْهُ عَنِ الفَرَحِ المُطْغِي الَّذِي هو انْهِماكُ وانْحِلالُ نَفْسٍ وأشَرٌ وإعْجابٌ، و"لا يُحِبُّ" -فِي هَذا المَوْضِعِ- صِفَةُ فِعْلٍ؛ لِأنَّهُ أمْرٌ قَدْ وقَعَ فَمُحالٌ أنْ يَرْجِعَ إلى الإرادَةِ، وإنَّما هو لا يُظْهِرُ عَلَيْهِمْ بَرَكَتَهُ، ولا يَهِبُهم رَحْمَتَهُ. ثُمْ وصَّوْهُ بِأنْ يَطْلُبَ بِمالِهِ رِضى اللهِ وآخِرَتِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُنْيا﴾ اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ فِيهِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- والجُمْهُورُ: مَعْناهُ: لا تُضَيِّعْ عُمُرَكَ في ألّا تَعْمَلَ عَمَلًا صالِحًا في دُنْياكَ؛ إذِ الآخِرَةُ إنَّما يُعْمَلُ لَها في الدُنْيا، فَنَصِيبُ الإنْسانِ عُمُرُهُ وعَمَلُهُ الصالِحُ فَيَنْبَغِي ألّا تُهْمِلَهُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فالكَلامُ كُلُّهُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- شِدَّةٌ في المَوْعِظَةِ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: مَعْناهُ: (p-٦١٣)وَلا تُضَيِّعْ حَظَّكَ أيْضًا مِن دُنْياكَ في تَمَتُّعِكَ بِالحَلالِ وطَلَبِكَ إيّاهُ، ونَظَرِكَ إلى عاقِبَةِ دُنْياكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فالكَلامُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- هو في الرِفْقِ بِهِ وإصْلاحِ الأمْرِ الَّذِي يَشْتَهِيهِ، وهَذا مِمّا يَجِبُ اسْتِعْمالُهُ مَعَ المَوْعُوظِ خَشْيَةَ النَبْوَةِ مِنَ الشِدَّةِ. وقالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ: قَدِّمُ الفَضْلَ وأمْسِكْ ما تَبْلُغُ بِهِ، وقالَ مالِكٌ: هو الأكْلُ والشُرْبُ بِلا سَرَفٍ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ أنَّهُ قِيلَ: أرادُوا بِنَصِيبِهِ الكَفَنَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا وعْظٌ مُتَّصِلٌ كَأنَّهم قالُوا: لا تَنْسَ أنَّكَ تَتْرُكُ جَمِيعَ مالِكَ إلّا نَصِيبَكَ الَّذِي هو الكَفَنُ، ونَحْوُ هَذا قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ نَصِيبُكَ مِمّا تَجْمَعُ الدَهْرَ كُلَّهُ ∗∗∗ رِداءانِ تُلْوى فِيهِما وحَنُوطُ وقَوْلُهُ: ﴿وَأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ﴾ أمْرٌ بِصِلَةِ المَساكِينِ وذَوِي الحاجَةِ. وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب