الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ ﴿فَأمّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَعَسى أنْ يَكُونَ مَن المُفْلِحِينَ﴾ ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾
هَذا النِداءُ أيْضًا كالأوَّلِ في احْتِمالِهِ الواسِطَةَ مِنَ المَلائِكَةِ، وهَذا النِداءُ أيْضًا لِلْكُفّارِ يُوقِفُهم عَلى ما أجابُوا بِهِ المُرْسَلِينَ الَّذِينَ دَعَوْهم إلى اللهِ تَعالى. ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنْباءُ﴾ أيْ: أظْلَمَتِ الأُمُورُ، فَلَمْ يَجِدُوا خَبَرًا يُخْبِرُونَ بِهِ مِمّا لَهم فِيهِ نَجاةٌ، وساقَ الفِعْلَ في صِيغَةِ المُضِيِّ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ وأنَّهُ تَعَيَّنَ، والماضِي مِنَ الأفْعالِ مُتَيَقَّنٌ، فَلِذَلِكَ تُوضَعُ صِيغَتُهُ بَدَلَ المُسْتَقْبَلِ المُتَيَقَّنِ فَيَقْوى وُقُوعُهُ وصِحَّتُهُ، ومَعْناهُ: أظْلَمَتْ جِهاتُها، وقَرَأ الأعْمَشُ: "فَعُمِّيَتْ" بِضَمِّ العَيْنِ وشَدِّ المِيمِ، ورُوِيَ في بَعْضِ الحَدِيثِ: «كانَ اللهُ في عَماءٍ» وذَلِكَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الأنْوارَ وسائِرَ المَخْلُوقاتِ. و"الأنْباءُ" جَمْعُ نَبَأٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهم لا يَتَساءَلُونَ﴾ مَعْناهُ فِيما قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: بِالأرْحامِ والأنْسابِ الَّذِي عُرْفُهُ في الدُنْيا أنْ يُتَساءَلَ بِهِ؛ لِأنَّهم قَدْ أيْقَنُوا أنَّ كُلَّهم لا حِيلَةَ لَهم ولا مَكانَةَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ أنَّهم لا يَتَساءَلُونَ عَنِ الأنْباءِ لِتَيَقُّنِ جَمِيعِهِمْ أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهم.
ثُمُ انْتَزَعَ تَعالى مِنَ الكَفَرَةِ مَن تابَ مِن كُفِرِهِ، وآمَنَ بِاللهِ ورُسُلِهِ، وعَمِلَ بِالتَقْوى، ورَجّى عَزَّ وجَلَّ أنَّهم يَفُوزُونَ بِبُغْيَتِهِمْ ويَبْقَوْنَ في النَعِيمِ الدائِمْ، وقالَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ: "عَسى" مِنَ اللهِ واجِبَةٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا ظَنٌّ حَسَنٌ بِاللهِ تَعالى يُشْبِهُ فَضْلَهُ وكَرَمَهُ، واللازِمْ مِن "عَسى" أنَّها تَرَجِيَّةٌ (p-٦٠٥)لا واجِبَةٌ، وفي كِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿عَسى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ﴾ [التحريم: ٥].
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ﴾ الآيَةُ، قِيلَ: سَبَبُها ما تَكَلَّمَتْ بِهِ قُرَيْشٌ مِنَ اسْتِغْرابِ أمْرِ النَبِيِّ ﷺ، وقَوْلُ بَعْضِهِمْ: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِسَبَبِ تِلْكَ المَنازِعِ، ورَدَّ اللهُ تَعالى عَلَيْهِمْ، وأخْبَرَ أنَّهُ يَخْلُقُ مِن عِبادِهِ وسائِرِ مَخْلُوقاتِهِ ما يَشاءُ، وأنَّهُ يَخْتارُ لِرِسالَتِهِ مَن يُرِيدُ ويَجْعَلُ فِيهِ المَصْلَحَةَ، ثُمْ نَفى أنْ يَكُونَ الِاخْتِيارُ لِلنّاسِ في هَذا ونَحْوِهِ، هَذا قَوْلُ جَماعَةٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، قالُوا: أنَّ "ما" نافِيَةٌ، أيْ: لَيْسَ لَهُمُ الخِيرَةُ عَنِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، فَتَجِيءُ الآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللهُ ورَسُولُهُ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: ويَخْتارُ اللهُ تَعالى الأدْيانَ والشَرائِعَ، ولَيْسَ لَهُمُ الخِيرَةُ في أنْ يَمِيلُوا إلى الأصْنامِ ونَحْوِها في العِبادَةِ، ويُؤَيِّدُ هَذا التَأْوِيلَ قَوْلُهُ: ﴿سُبْحانَ اللهِ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾.
وذَهَبَ الطَبَرِيُّ إلى أنَّ "ما" في قَوْلِهِ: ﴿وَيَخْتارُ ما كانَ﴾ مُفَعْوِلَةٌ، قالَ: والمَعْنى أنَّ الكُفّارَ كانُوا يَخْتارُونَ مِن أمْوالِهِمْ لِأصْنامِهِمْ خِيارَها، فَأخْبَرَ اللهُ تَعالى أنَّ الِاخْتِيارَ إنَّما هو لَهُ وحْدَهُ، يَخْلُقُ ويَخْتارُ مِنَ الرُسُلِ والشَرائِعِ ما كانَ خَيْرًا لِلنّاسِ، لا كَما يَخْتارُونَ هم ما لَيْسَ لَهُمْ، ويَفْعَلُونَ ما لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
واعْتَذَرَ الطَبَرِيُّ عَنِ الرَفْعِ الَّذِي أجْمَعَ القُرّاءُ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ بِأقْوالٍ لا تَتَحَصَّلُ، وقَدْ رَدَّ الناسُ عَلَيْهِ في ذَلِكَ، وذَكَرَ عَنِ الفَرّاءِ أنَّ (p-٦٠٦)القاسِمَ بْنَ مَعْنٍ أنْشَدَهُ بَيْتَ عنتَرَةَ:
؎ أمِن سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كانَ ذا مِنكَ قَبْلَ اليَوْمِ مَعْرُوفُ
وقَرَنَ الآيَةَ بِهَذا البَيْتِ، والرِوايَةُ في البَيْتِ: (لَوْ أنَّ ذا)، ولَكِنْ عَلى ما رَواهُ القاسِمْ يَتَّجِهُ في بَيْتِ عنتَرَةَ أنْ يَكُونَ ضَمِيرَ الأمْرِ والشَأْنِ، فَأمّا في الآيَةِ فَلا يَكُونُ بِجُمْلَةٍ فِيها مَحْذُوفٌ، وفي هَذا كُلِّهِ نَظَرٌ.
والوَقْفُ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الناسِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَيَخْتارُ﴾، وعَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الطَبَرِيُّ لا يُوقَفُ عَلى ذَلِكَ.
ويَتَّجِهُ عِنْدِي أنْ تَكُونَ "ما" مُفَعْوِلَةً إذا قَدَّرْنا "كانَ" تامَّةً، أيْ أنَّ اللهَ تَعالى يَخْتارُ كُلَّ كائِنٍ، ولا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا بِإذْنِهِ، وقَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿لَهُمُ الخِيَرَةُ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَعْناها تَعْدِيدُ النِعْمَةِ عَلَيْهِمْ في اخْتِيارِ اللهِ تَعالى لَهم لَوْ قَبِلُوا وفَهِمُوا.
{"ayahs_start":65,"ayahs":["وَیَوۡمَ یُنَادِیهِمۡ فَیَقُولُ مَاذَاۤ أَجَبۡتُمُ ٱلۡمُرۡسَلِینَ","فَعَمِیَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَنۢبَاۤءُ یَوۡمَىِٕذࣲ فَهُمۡ لَا یَتَسَاۤءَلُونَ","فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَعَسَىٰۤ أَن یَكُونَ مِنَ ٱلۡمُفۡلِحِینَ","وَرَبُّكَ یَخۡلُقُ مَا یَشَاۤءُ وَیَخۡتَارُۗ مَا كَانَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُۚ سُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَتَعَـٰلَىٰ عَمَّا یُشۡرِكُونَ"],"ayah":"فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا فَعَسَىٰۤ أَن یَكُونَ مِنَ ٱلۡمُفۡلِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق