الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَلَمّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَبِيلِ﴾ ﴿وَلَمّا ورَدَ ماءَ مَدْيَنَ وجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ الناسِ يَسْقُونَ ووَجَدَ مِنَ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي (p-٥٨٣)حَتّى يُصْدِرَ الرِعاءُ وأبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ﴾ ﴿فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلّى إلى الظِلِّ فَقالَ رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾
ولَمّا خَرَجَ عَلَيْهِ السَلامُ فارًّا بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا حافِيًا لا شَيْءَ مَعَهُ؛ رَأى حالَهُ وعَدَمَ مَعْرِفَتِهِ بِالطَرِيقِ، وخُلُوِّهِ مِنَ الزادِ وغَيْرِهِ فَأسْنَدَ أمْرَهُ إلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى وقالَ: ﴿عَسى رَبِّي أنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَبِيلِ﴾، وهَذِهِ الأقْوالُ مِنهُ تَقْتَضِي أنَّهُ كانَ عارِفًا بِاللهِ تَعالى، عالِمًا بِالحِكْمَةِ والعِلْمِ الَّذِي آتاهُ اللهُ تَعالى. و"تَوَجَّهَ": رَدَّ وجْهَهُ إلَيْها، و"تِلْقاءَ" مَعْناهُ: إلى ناحِيَةٍ، أيْ إلى الجِهَةِ الَّتِي يَلْقى فِيها الشَيْءَ المَذْكُورَ، و﴿سَواءَ السَبِيلِ﴾ مَعْناهُ: وسْطَهُ، وفي هَذا الوَقْتِ بَعَثَ اللهُ المَلَكَ المُسَدِّدَ حَسَبَ ما ذَكَرْناهُ قَبْلُ، وقالَ مُجاهِدٌ: أرادَ بِـ " سَواءَ السَبِيلِ " طَرِيقَ مَدِينَ، وقالَ الحَسَنُ: أرادَ سَبِيلَ الهُدى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا أبْرَعُ، ونَظِيرُهُ قَوْلُ الصَدِيقِ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: «هَذا الَّذِي يَهْدِي السَبِيلَ» الحَدِيثُ. فَمَشى عَلَيْهِ السَلامُ حَتّى ورَدَ مَدْيَنَ، أيْ: بَلَغَها، ووُرُودُهُ الماءَ مَعْناهُ: بُلُوغُهُ؛ لِأنَّهُ دَخَلَ فِيهِ، ولَفْظَةُ الوُرُودِ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنى الدُخُولِ في الشَيْءِ، وقَدْ تَكُونُ بِمَعْنى الإطْلالِ عَلَيْهِ والبُلُوغِ إلَيْهِ وإنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، فَوُرُودُ مُوسى هَذا الماءَ كانَ بِالوُصُولِ إلَيْهِ، وهَذِهِ الوُجُوهُ في اللَفْظَةِ تُتَناوَلُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَإنْ مِنكم إلا وارِدُها﴾ [مريم: ٧١]. ومَدْيَنُ" لا يَنْصَرِفُ؛ إذْ هي بَلْدَةٌ مَعْرُوفَةٌ. و"الأُمَّةُ": الجَمْعُ الكَثِيرُ، و"يَسْقُونَ" مَعْناهُ: ماشِيَتِهَمْ، و﴿مِن دُونِهِمُ﴾ مَعْناهُ: ناحِيَةٌ إلى الجِهَةِ الَّتِي جاءَ مِنها، فَوَصَلَ إلى الِامْرَأتَيْنِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلى الأُمَّةِ، وهَكَذا هُما مِن دُونِهِمْ بِالإضافَةِ إلَيْهِ، و"تَذُودانِ" مَعْناهُ: تَمْنَعانِ وتَحْبِسانِ، ومِنهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: (p-٥٨٤)«ألا لَيُذادَنَّ رِجالٌ عن حَوْضِي» الحَدِيثُ، وشاهِدُ الشِعْرِ في ذَلِكَ كَثِيرٌ، وفي بَعْضِ المَصاحِفِ "امْرَأتَيْنِ حابِسَتَيْنِ تَذُودانِ"، واخْتُلِفَ في الذَوْدِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- وغَيْرُهُ: تَذُودانِ غَنَمَهُما عَنِ الماءِ خَوْفًا مِنَ السُقاةِ الأقْوِياءِ، وقالَ قَتادَةُ: تَذُودانِ الناسَ عن غَنَمِهِما، فَلَمّا رَأى مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ المَرْأتَيْنِ قالَ: ﴿ما خَطْبُكُما﴾ ؟ أيْ: ما أمْرُكُما وشَأْنُكُما؟ وكَأنَّ اسْتِعْمالَ السُؤالِ بِالخَطْبِ إنَّما هو في مُصابٍ أو مُضْطَهَدٍ أو مَن يُشْفَقُ عَلَيْهِ أو يَأْتِي بِمُنْكَرٍ مِنَ الأمْرِ، فَكَأنَّهُ بِالجُمْلَةِ في شَرٍّ، فَأخْبَرَتاهُ بِخَبَرِهِما، وأنَّ أباهُما شَيْخٌ كَبِيرٌ، فالمَعْنى أنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ لِضَعْفِهِ أنْ يُباشِرَ أمْرَ غَنَمِهِما، وأنَّهُما لِضَعْفِهِما وقِلَّةِ طاقَتِهِما لا تَقْدِرانِ عَلى مُزاحَمَةِ الأقْوِياءِ، وأنَّ عادَتَهُما التَأنِّي حَتّى يُصْدِرَ الرِعاءُ أيِ الناسُ- عَنِ الماءِ ويَخْلُو، وحِينَئِذٍ تَرِدانِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: كانَتِ الآبارُ مَكْشُوفَةً، وكانَ زَحْمُ الناسِ يَمْنَعُهُما، فَلَمّا أرادَ مُوسى أنْ يَسْقِيَ لَهُما؛ زَحَمَ الناسَ وغَلَبَهم عَلى الماءِ حَتّى سَقى، فَعن هَذا الغَلَبِ الَّذِي كانَ مِنهُ، وصَفَتْهُ إحْداهُما بِالقُوَّةِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كانَتْ آبارُهم عَلى أفْواهِها حِجارَةٌ كِبارٌ، وكانَ وُرُودُ المَرْأتَيْنِ يَتْبَعُ ما في صَهارِيجِ الشُرْبِ مِنَ الفَضَلاتِ الَّتِي تَبْقى لِلسُّقاةِ، وأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ عَمَدَ إلى بِئْرٍ كانَتْ مُغَطّاةً والناسُ يَسْقُونَ مِن غَيْرِها، وكانَ حَجَرُها لا يَرْفَعُهُ إلّا سَبْعَةٌ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَشَرَةٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: ثَلاثُونَ، وقالَ الزَجّاجُ: أرْبَعُونَ، فَرَفَعَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ وسَقى لِلْمَرْأتَيْنِ، فَعن رَفْعِ الصَخْرَةِ، وصَفَتْهُ بِالقُوَّةِ. وقِيلَ: إنَّ بِئْرَهم كانَتْ واحِدَةً، وأنَّهُ رَفَعَ عنها الحَجَرَ بَعْدَ انْفِصالِ السُقاةِ؛ إذْ كانَتْ عادَةُ المَرْأتَيْنِ شُرْبَ الفَضَلاتِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نَسْقِي" بِفَتْحِ النُونِ، وقَرَأ طَلْحَةُ: "نَسْقِي" بِضَمِّها، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "حَتّى يَصْدُرَ" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الدالِ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وأبِي (p-٥٨٥)جَعْفَرَ، وقَتادَةُ، وقَرَأ الباقُونَ: "يُصْدِرَ" بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الدالِ عَلى حَذْفِ المَفْعُولِ، تَقْدِيرُهُ: مَواشِيَهُمْ، وحَذْفُ المَفْعُولِ كَثِيرٌ في القُرْآنِ والكَلامِ، وهي قِراءَةُ الأعْرَجِ، وطَلْحَةُ، والأعْمَشُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ، وعِيسى. و"الرِعاءُ" جَمْعُ راعٍ.
وتَوَلّى مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ إلى ظِلِّ سَمُرَةٍ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وتَعَرَّضَ لِسُؤالِ ما يَطْعَمُهُ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، ولَمْ يُصَرِّحْ بِسُؤالٍ، هَكَذا رَوى سائِرُ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ طَلَبَ في هَذا الكَلامِ ما يَأْكُلُهُ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: وكانَ قَدْ بَلَغَ بِهِ الجُوعُ، واخْضَرَّ لَوْنُهُ مِن أكْلِ البَقْلِ، وضَعُفَ حَتّى لَصَقَ بَطْنُهُ بِظَهْرِهِ ورُؤِيَتْ خُضْرَةُ البَقْلِ في بَطْنِهِ، وإنَّهُ لَأكْرَمُ الخَلْقِ يَوْمَئِذٍ عَلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ويُرْوى أنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلى مَدْيَنَ حَتّى سَقَطَ باطِنُ قَدَمِهِ، وفي هَذا مُعْتَبَرٌ وحاكِمْ بِهَوانِ الدُنْيا عَلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلۡقَاۤءَ مَدۡیَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّیۤ أَن یَهۡدِیَنِی سَوَاۤءَ ٱلسَّبِیلِ","وَلَمَّا وَرَدَ مَاۤءَ مَدۡیَنَ وَجَدَ عَلَیۡهِ أُمَّةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ یَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَیۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِی حَتَّىٰ یُصۡدِرَ ٱلرِّعَاۤءُۖ وَأَبُونَا شَیۡخࣱ كَبِیرࣱ","فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰۤ إِلَى ٱلظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّی لِمَاۤ أَنزَلۡتَ إِلَیَّ مِنۡ خَیۡرࣲ فَقِیرࣱ"],"ayah":"وَلَمَّا وَرَدَ مَاۤءَ مَدۡیَنَ وَجَدَ عَلَیۡهِ أُمَّةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ یَسۡقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ٱمۡرَأَتَیۡنِ تَذُودَانِۖ قَالَ مَا خَطۡبُكُمَاۖ قَالَتَا لَا نَسۡقِی حَتَّىٰ یُصۡدِرَ ٱلرِّعَاۤءُۖ وَأَبُونَا شَیۡخࣱ كَبِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق