الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ المَراضِعَ مِن قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أدُلُّكم عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكم وهم لَهُ ناصِحُونَ﴾ ﴿فَرَدَدْناهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ ولِتَعْلَمَ أنَّ وعْدَ اللهِ حَقٌّ ولَكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وَلَمّا بَلَغَ أشُدَّهُ واسْتَوى آتَيْناهُ حُكْمًا وعِلْمًا وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ ﴿وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن أهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذا مِن شِيعَتِهِ وهَذا مِن عَدُوِّهِ فاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلى الَّذِي مِن عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هَذا مِن عَمَلِ الشَيْطانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾. قَوْلُهُ تَبارَكَ وتَعالى: ﴿وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ المَراضِعَ﴾ يَقْتَضِي أنَّ اللهَ تَعالى خَصَّهُ مِنَ الِامْتِناعِ مِن ثَدْيِ النِساءِ بِما يَشِذُّ بِهِ عن عُرْفِ الأطْفالِ، وهو تَحْرِيمُ تَبْغِيضٍ، و"المَراضِعُ" جَمْعُ مُرْضِعٍ، واسْتُعْمِلَ دُونَ هاءِ التَأْنِيثِ لِأنَّهُ لا يَلْتَبِسُ بِالرِجالِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "مِن قَبْلُ" أيْ مِن أوَّلِ أمْرِهِ، و"قَبْلُ" مَبْنِيٌّ، والضَمِيرُ في "فَقالَتْ" لِأُخْتِ مُوسى، قالَ النَقاشُ: اسْمُها مَرْيَمُ، و"يَكْفُلُونَهُ" مَعْناهُ: يُحْسِنُونَ تَرْبِيَتَهُ وإرْضاعَهُ. وعَلِمُ القَوْمُ أنَّ مُكَلِّمَتَهم مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ ذَلِكَ عُرْفَ بَنِي إسْرائِيلَ، أنْ يَكُونُوا مَراضِعَ وخَدَمَةً. وقَوْلُهُ: ﴿وَهم لَهُ ناصِحُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنَّ الضَمِيرَ يَعُودُ عَلى الطِفْلِ، فَقالُوا لَها: إنَّكِ قَدْ عَرِفْتِهِ فَأخْبِرِينا مَن هُوَ؟ فَقالَتْ: ما أرَدْتُ إلّا أنَّهم ناصِحُونَ لِلْمَلِكِ، فَتَخَلَّصَتْ مِنهم بِهَذا التَأْوِيلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَمِيرُ عَلى الطِفْلِ ولَكِنْ يَكُونُ النُصْحُ لَهُ بِسَبَبِ المُلْكِ وحِرْصًا عَلى التَزَلُّفِ إلَيْهِ والقُرْبِ مِنهُ، وفي الكَلامِ هُنا حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظاهِرُ، وهو أنَّها حَمَلَتْهم إلى أُمْ مُوسى وكَلَّمُوها في ذَلِكَ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِ وقَبِلَها، وحَظِيَتْ بِذَلِكَ، وأحْسَنَ إلَيْها وإلى أهْلِ بَيْتِها، وقَرَّتْ عَيْنُها، أيْ سُرَّتْ بِذَلِكَ، ورُوِيَ أنَّ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ اللهُ تَعالى قالَ (p-٥٧٧)لَها: ما سَبَبُ قَبُولِ هَذا الطِفْلِ؟ قالَتْ لَهُ: "إنِّي طَيِّبَةُ الرائِحَةِ طَيِّبَةُ اللَبَنِ، ودَمْعُ الفَرَحِ بارِدٌ، وعَيْنُ المَهْمُومِ حُرّى سُخْنَةٌ"، فَمِن هَذا المَعْنى قِيلَ: قَرَّتِ العَيْنُ وسَخُنَتْ، وقَرَأ يَعْقُوبُ: "نُقِرُّ" بِنُونٍ مَضْمُومَةٍ وكَسْرِ القافِ. و"وَعْدَ اللهِ" تَعالى المُشارُ إلَيْهِ هو الَّذِي أوحاهُ إلَيْها أوَّلًا، إمّا بِمَلَكٍ أو تَمَثُّلُهُ، وإمّا بِإلْهامٍ حَسَبَ اخْتِلافِ المُفَسِّرِينَ في ذَلِكَ، والقَوْلُ بِالإلْهامِ يَضْعُفُ أنْ يُقالَ فِيهِ: "وَعْدَ". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَكِنَّ أكْثَرَهُمْ﴾ يُرِيدُ القِبْطَ. و"الأشُدُّ" جَمْعُ شِدَّةٍ، مِنَ السِنِينَ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: بُلُوغُ الحُلُمْ، وهي مُدَّةُ خَمْسَةَ عَشَرَ عامًا، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ثَمانِيَةَ عَشَرَ عامًا، وقالَ السُدِّيُّ: عِشْرُونَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ثَلاثُونَ، وقالَ مُجاهِدٌ وابْنُ عَبّاسٍ: ثَلاثَةٌ وثَلاثُونَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ عَظِيمَةٌ: سِتَّةٌ وثَلاثُونَ، وقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ الِاسْتِواءُ: أرْبَعُونَ سَنَةً، وقالَ مَكِّيُّ: وقِيلَ هو سِونَ سَنَةً، وهَذا ضَعِيفٌ. والأشَدُّ: شِدَّةُ البَدَنِ واسْتِحْكامُ أسْرِهِ وقُوَّتِهِ "واسْتَوى" مَعْناهُ: تَكامَلَ عَقَلُهُ وحَزَمَهُ، وذَلِكَ -عِنْدَ الجُمْهُورِ- مَعَ الأرْبَعِينَ. و"الحُكْمُ": الحِكْمَةُ، و"العِلْمُ": المَعْرِفَةُ بِشَرْعِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ، وهي مُقَدِّمَةٌ لِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَلامُ. واخْتَلَفَ المُتَألُّونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِن أهْلِها﴾، فَقالَ السُدِّيُّ: كانَ مُوسى في وقْتِ هَذِهِ القِصَّةِ عَلى رَسْمِ التَعَلُّقِ بِفِرْعَوْنَ، وكانَ يَرْكَبُ مَواكِبَهُ حَتّى أنَّهُ كانَ يُدْعى مُوسى بْنَ فِرْعَوْنَ، قالُوا: فَرَكِبَ فِرْعَوْنُ يَوْمًا وسارَ إلى مَدِينَةٍ مِن مَدائِنِ مِصْرَ يُقالُ لَها مَنفٌ، ثُمْ عَلِمْ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِرُكُوبِ فِرْعَوْنَ فَرَكِبَ بَعْدَهُ ولِحِقَ بِتِلْكَ المَدِينَةِ في وقْتِ القائِلَةِ، وهو حِينَ الغَفْلَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقالَ أيْضًا: هو ما بَيْنَ العَشاءِ والعَتَمَةِ، وقالَ ابْنُ إسْحاقٍ: بَلِ المَدِينَةُ مِصْرُ نَفْسُها، وكانَ مُوسى في هَذا الوَقْتِ قَدْ بَدَتْ مِنهُ مُجاهَدَةٌ لِفِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ بِما يَكْرَهُونَ، فَكانَ مُخْتَفِيًا بِنَفْسِهِ مُخَوَّفًا مِنهُمْ، فَدَخَلَ مُتَنَكِّرًا حَذِرا مُغْتَفِلًا لِلنّاسِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَلْ كانَ فِرْعَوْنُ قَدْ نابَذَهُ وأخْرَجَهُ مِنَ المَدِينَةِ وغابَ عنها سِنِينَ فَنَسِيَ فَفَشا أمَرُهُ، وجاءَ والناسُ عَلى غَفْلَةٍ بِنِسْيانِهِمْ لِأمْرِهِ وبُعْدُ عَهْدِهِمْ بِهِ، وقِيلَ: كانَ يَوْمُ عِيدٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَقْتَتِلانِ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُقْتَتِلِينَ. و"شِيعَتُهُ": بَنُو إسْرائِيلَ، و"عَدُوُّهُ": القِبْطُ. وذَكَرَ (p-٥٧٨)الأخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ أنَّها "فاسْتَعانَهُ" بِالعَيْنِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ، وهي تَصْحِيفٌ لا قِراءَةَ. وذَكَرَ الثَعْلَبِيُّ أنَّ ﴿الَّذِي مِن شِيعَتِهِ﴾ هو السامِرِيُّ، وأنَّ الآخَرَ طَبّاخُ فِرْعَوْنَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا﴾، "وَهَذا" حِكايَةُ حالٍ قَدْ كانَتْ حاضِرَةً، ولِذَلِكَ عَبَّرَ بِـ "هَذا" عن غائِبٍ ماضٍ. "والوَكْزُ": الضَرْبُ بِاليَدِ مَجْمُوعًا كَعُقَدٍ ثَلاثٍ وسَبْعِينَ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "فَلَكَزَهُ"، والمَعْنى واحِدٌ إلّا أنَّ اللَكْزَ في اللِحى، و"الوَكْزُ" عَلى القَلْبِ، وحَكى الثَعْلَبِيُّ أنَّ في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "فَنَكَزَهُ"، والمَعْنى واحِدٌ. و" قَضى عَلَيْهِ "، مَعْناهُ: قَتَلَهُ، وكانَ مُوسى عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ لَمْ يُرِدْ قَتْلَ القِبْطِيِّ لَكِنْ وافَقَتْ وكْزَتُهُ الأجَلَ وكانَ عنها مَوْتُهُ، فَنَدِمْ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، ورَأى أنَّ ذَلِكَ مِن نَزْغِ الشَيْطانِ في يَدِهِ، وأنَّ الغَضَبَ الَّذِي اقْتَرَنَتْ بِهِ تِلْكَ الوَكْزَةِ كانَ مِنَ الشَيْطانِ ومَن هَمْزِهِ، ونَصَّ هو عَلى ذَلِكَ، وبِهَذا الوَجْهِ جَعَلَهُ مِن عَمَلِهِ، وكانَ فَضْلُ قُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَلامُ بِما أفْرَطَ في وقْتِ غَضَبِهِ بِأكْثَرَ مِمّا يَقْصِدُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب