الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ يا أيُّها المَلأُ أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ ﴿قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِنَ مَقامِكَ وإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمِينٌ﴾ ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذا مِنَ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أأشْكُرُ أمْ أكْفُرُ ومَن شَكَرَ فَإنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ومَن كَفَرَ فَإنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ القائِلُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ، والمَلَأُ المُنادى جَمْعُهُ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ، واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في غَرْضِهِ في اسْتِدْعاءِ عَرْشِها، فَقالَ قَتادَةٌ: ذُكِرَ لَهُ بِعِظَمٍ وجَوْدَةٍ، فَأرادَ أخْذَهُ قَبْلَ أنْ يَعْصِمَها وقَوْمَها الإسْلامُ ويَحْمِيَ أمْوالَهَمْ، والإسْلامُ -عَلى هَذا- الدِينُ، وهو قَوْلُ ابْنُ جُرَيْجٍ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: اسْتَدْعاهُ لِيُرِيَها القُدْرَةَ الَّتِي هي مِن عِنْدِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولِيُغْرِبَ عَلَيْها، و"مُسْلِمِينَ" -فِي هَذا التَأْوِيلِ- هو بِمَعْنى: مُسْتَسْلِمِينَ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وذَكَرَ صِلَةً في العِبارَةِ، ولا تَأْثِيرَ لِاسْتِسْلامِهِمْ في عَرْضِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى: الإسْلامِ، وأمّا في التَأْوِيلِ الأوَّلِ فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى الإسْلامِ. وظاهِرُ الآياتِ أنَّ هَذِهِ المَقالَةَ مِن سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ بَعْدَ مَجِيءِ هَدِيَّتِها ورَدِّهِ إيّاها، وبَعْثِهِ الهُدْهُدَ بِالكِتابِ، وعَلى هَذا جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، وحَكى الطَبَرِيُّ أنَّهُ قالَ ذَلِكَ في اخْتِبارِهِ صِدْقِ الهُدْهُدِ مَن كَذِبِهِ لَمّا قالَ لَهُ: ﴿وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣]، فَقالَ سُلَيْمانُ: ﴿أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ ؟ ثُمْ وقَعَ في تَرْتِيبِ القِصَصِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والقَوْلُ الأوَّلُ أصَحُّ. (p-٥٣٩)وَرُوِيَ أنَّ عَرْشَها كانَ مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ مُرَصَّعًا بِالجَوْهَرِ والياقُوتِ، وأنَّهُ كانَ في جَوْفِ سَبْعَةِ أبْياتٍ عَلَيْهِ سَبْعَةُ أغْلاقٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "قالَ عِفْرِيتٌ"، وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، وعِيسى الثَقَفِيِّ: "قالَ عِفْرِيَةٌ"، ورُوِيَتْ عن أبِي بَكْرٍ الصَدِيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "قالَ عِفْرَةٌ" بِكَسْرِ العَيْنِ، وكُلُّ ذَلِكَ لُغاتٌ فِيهِ، وهو مِنَ الشَياطِينِ: المارِدُ القَوِيُّ، والتاءُ في "عِفْرِيتٌ" زائِدَةٌ، وقَدْ قالُوا: "تَعَفَرْتَ الرَجُلَ" إذا تَخَلَّقَ بِخَلْقٍ الإذايَةِ، قالَ وهَبَ بْنِ مُنَبِّهٍ: اسْمُ هَذا العِفْرِيتِ "كُورِي"، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أنَّهُ صَخَّرَ الجِنِّيَّ، ومِن هَذا الِاسْمِ، قَوْلُ ذِيِ الرُمَّةِ: ؎ كَأنَّهُ كَوْكَبٌ في إثْرِ عِفْرِيَةٍ مُصَوَّبٌ في سَوادِ اللَيْلِ مُنْقَضِبُ وقَوْلُهُ: ﴿قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِن مَقامِكَ﴾، قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ مُنَبِّهٌ: مَعْناهُ: قَبْلَ أنْ تَسْتَوِي مِن جُلُوسِكَ قائِمًا، و﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ: مَعْناهُ: قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلَيْكَ مَن يَقَعُ طَرَفُكَ عَلَيْهِ مَن أبْعَدِ ما تَرى، وقالَ مُجاهِدٌ مَعْناهُ: قَبْلَ أنْ تَحْتاجَ إلى التَغْمِيضِ، أيْ: مُدَّةَ ما يُمْكِنُكَ أنْ تَمُدَّ بَصَرَكَ دُونَ تَغْمِيضٍ، وذَلِكَ ارْتِدادُهُ. (p-٥٤٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذانِ القَوْلانِ يُقابِلانِ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ القِيامَ هو مِن مَجْلِسِ الحُكْمِ، ومَن قالَ: إنَّ القِيامَ هو مِنَ الجُلُوسِ، فَيَقُولُ في ارْتِدادِ الطَرَفِ: هو أنْ يَطْرِفَ، أيْ: قَبْلَ أنْ تُغْمِضَ عَيْنَيْكَ وتَفْتَحَهُما، وذَلِكَ أنَّ الثانِي يُعاطِي الأقْصَرَ في المُدَّةِ ولا بُدَّ. وقَوْلُهُ: ﴿وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أمِينٌ﴾ مَعْناهُ: لَقَوِيٌّ عَلى حَمْلِهِ، أمِينٌ عَلى ما فِيهِ. ويُرْوى أنَّ بِلْقِيسَ لِما فُصِلَتْ مِن بَلَدِها مُتَوَجِّهَةً إلى سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ، تَرَكَتِ العَرْشَ تَحْتَ سَقْفِ حَصِينٍ، فِلْما عَلِمْ سُلَيْمانُ بِانْفِصالِها أرادَ أنْ يُغْرِبَ عَلَيْها بِأنْ تَجِدَ عَرْشَها عِنْدَهُ لِتَعْلَمَ أنَّ مُلْكَهُ لا يُضاهى، فاسْتَدْعى سَوْقَهُ، فَدَعا الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ التَوْراةِ -وَهُوَ الكِتابُ المُشارُ إلَيْهِ- بِاسْمِ اللهِ الأعْظَمِ الَّذِي كانَتِ العادَةُ في كُلِّ زَمانٍ ألّا يَدْعُوَ بِهِ أحَدٌ إلّا أُجِيبَ، فَشُقَّتِ الأرْضُ بِذَلِكَ العَرْشِ حَتّى نَبَعَ بَيْنَ يَدَيْ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ، وقِيلَ: بَلْ جِيءَ بِهِ في الهَواءِ، قالَ مُجاهِدٌ: وكانَ بَيْنَ سُلَيْمانَ وبَيْنَ العَرْشِ كَما بَيْنَ الكُوفَةِ والحَيْرَةِ، وحَكى الرُمّانِيُّ أنَّ العَرْشَ حُمِلَ مِن مَأْرِبٍ إلى الشامِ في قَدْرِ رَجْعِ البَصَرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ مَسِيرَةُ شَهْرَيْنِ لِلْمُجِدِّ، وقَوْلُ مُجاهِدٍ أشْهَرُ. ورُوِيَ أنَّ الجِنَّ كانَتْ تُخْبِرُ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ بِمَناقِلَ سَرِيرِها، فَلَمّا قَرُبَتْ قالَ: ﴿أيُّكم يَأْتِينِي بِعَرْشِها﴾ ؟ واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ، مَن هُوَ؟ فَجُمْهُورُ الناسِ عَلى أنَّهُ رَجُلٌ صالِحٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ اسْمُهُ آصِفُ بْنُ بَرْخِيا، رُوِيَ أنَّهُ صَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمْ قالَ لِسُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ: يا نَبِيَّ اللهِ أمْدُدْ بَصَرَكَ، فَمَدَّ بَصَرَهُ فَإذا بِالعَرْشِ نَحْوَ اليَمَنِ، فَما رَدَّ سُلَيْمانُ بَصَرَهُ إلّا والعَرْشُ عِنْدَهُ، وقالَ قَتادَةُ: اسْمُهُ مَلِيخًا، وقالَ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَ ابْنُ لَهِيعَةٍ: هو الخِضْرُ، وحَكى النَقاشُ عن جَماعَةٍ أنَّهم سَمِعُوا أنَّهُ ضَبَّةُ بْنُ أُدٍّ جَدُّ بَنِي ضَبَّةَ مِنَ العَرَبِ، قالُوا: وكانَ رَجُلًا فاضِلًا يَخْدِمْ سُلَيْمانَ عَلى قِطْعَةٍ مِن خَيْلِهِ. (p-٥٤١)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هو سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَلامُ، والمُخاطَبَةُ -فِي هَذا التَأْوِيلِ- لِلْعِفْرِيتِ، لَمّا قالَ هُوَ: ﴿أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ تَقُومَ مِن مَقامِكَ﴾ قِيلَ: كَأنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ اسْتَبْطَأ ذَلِكَ فَقالَ لَهُ عَلى جِهَةِ تَحْقِيرِهِ: ﴿أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ﴾، واسْتَدَلَّ قائِلُ هَذا القَوْلِ بِقَوْلِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ. ﴿هَذا مِن فَضْلِ رَبِّي﴾، واسْتُدِلَّ أيْضًا بِهَذا القَوْلِ مُناقِضُهُ؛ إذْ في كِلا الأمْرَيْنِ عَلى سُلَيْمانَ فَضْلٌ مِنَ اللهِ تَعالى، وعَلى الأقْوالِ الأُوَلِ المُخاطَبَةُ لِسُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ، ولَفْظُ "آتِيكَ" يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ فِعْلًا مُسْتَقْبَلًا، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ اسْمَ فاعِلٍ، وفي الكَلامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: فَدَعا بِاسْمِ اللهِ تَعالى فَجاءَ العَرْشُ بِقُدْرَةِ اللهِ تَعالى، فَلَمّا رَآهُ سُلَيْمانُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ جَعَلَ يَشْكُرُ نِعْمَةَ رَبِّهِ بِعِبارَةٍ فِيها تَعْلِيمُ لِلنّاسِ، وهي عُرْضَةٌ لِلِاقْتِداءِ بِها والِاقْتِباسِ مِنها. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أأشْكُرُ عَلى السَرِيرِ وسَوْقِهِ أمْ أكْفُرُ إذْ رَأيْتُ مَن هو دُونِي في الدُنْيا أعْلَمُ مِنِّي؟ وظَهَرَ العامِلُ في الظَرْفِ مِن قَوْلِهِ: " مُسْتَقِرًّا "، وهَذا هو المُقَدَّرُ أبَدًا في كُلِّ ظَرْفٍ جاءَ هُنا مُظْهَرًا، ولَيْسَ في كِتابِ اللهِ تَعالى مِثْلُهُ. وباقِي الآيَةِ بَيِّنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب