الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَجَدْتُها وقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وزَيَّنَ لَهُمُ الشَيْطانُ أعْمالَهم فَصَدَّهم عَنِ السَبِيلِ فَهم لا يَهْتَدُونَ﴾ ﴿ألا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ في السَماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ﴾ ﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ ﴿قالَ سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِينَ﴾ ﴿اذْهَبْ بِكِتابِي هَذا فَألْقِهْ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عنهم فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ﴾ كانَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ أُمَّةً تَعْبُدُ الشَمْسَ؛ لِأنَّهم كانُوا زَنادِقَةً فِيما رُوِيَ، وقِيلَ: كانُوا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الأنْوارَ. وقَوْلُهُ: ﴿ألا يَسْجُدُوا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿العَرْشِ العَظِيمِ﴾ ظاهِرٌ أنَّهُ مِن قَوْلِ الهُدْهُدِ، وهو قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وابْنِ إسْحاقٍ، ويَعْتَرِضُ بِأنَّهُ غَيْرُ مُخاطَبٍ فَكَيْفَ يَتَكَلَّمُ في شَرْعٍ؟! [وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ سُلَيْمانَ لِمّا أخْبَرَهُ الهُدْهُدُ عَنِ القَوْمِ]، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن قَوْلِ اللهِ تَعالى، فَهو اعْتِراضٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، وهو الثابِتُ مَعَ التَأمُّلِ، وقِراءَةُ التَشْدِيدِ في "ألّا" تُعْطِيَ أنَّ الكَلامَ لِلْهُدْهُدِ، وقِراءَةُ التَخْفِيفِ تَمْنَعُهُ وتُقَوِّي الآخَرَ حَسَبَ ما سُمِعَ، ويَتَأمَّلُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ "ألّا"، أيْ "لا يَسْجُدُوا"، فَـ "أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى البَدَلِ مِن "أعْمالَهُمْ"، أو في مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلى البَدَلِ مِنَ "السَبِيلِ"، أو يَكُونُ الكَلامُ بِتَقْدِيرِ: "لِئَلّا يَسْجُدُوا"، فَـ "أنْ" مُتَعَلِّقَةٌ إمّا بِـ "زَيَّنَ"، وإمّا بِـ "فَصَدَّهُمْ"، واللامُ الداخِلَةُ عَلى "أنْ" داخِلَةٌ عَلى مَفْعُولٍ لَهُ. (p-٥٣٢)وَقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو جَعْفَرٍ، والزَهْرِيُّ، وأبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ، والحَسَنُ، والكِسائِيُّ، والحُسَيْنُ: "ألا يَسْجُدُوا" بِتَخْفِيفِ اللامِ، فَعَلى هَذا لَهُ أنْ يَقِفَ عَلى "فَهم لا يَهْتَدُونَ" ويَبْتَدِئُ بِـ "ألا يَسْجُدُوا"، وإنْ شاءَ وقَفَ عَلى "ألا يا" ثُمْ يَبْتَدِئُ: "اسْجُدُوا"، واحْتَجَّ الكِسائِيُّ لِقِراءَتِهِ هَذِهِ بِأنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ مَوْضِعُ سَجْدَةٍ وإنْ جَعَلْناهُ مِن كَلامِ الهُدْهُدِ، بِمَعْنى: ألا يا قَوْمِ ونَحْوَ هَذا، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ألا يا اسْلَمِي يا دارَ مَيِّ عَلى البِلى ولا زالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعائِكِ القَطْرُ ونَحْوَ قَوْلِ الأخْطَلِ: ؎ ألّا يا أسْلِمِي يا هِنْدُ هِنْدُ بُنِيَ بَدْرُ ∗∗∗ وإنْ كانَ حَيّانا عَدا آخِرِ الدَهْرِ ومِنهُ قَوْلٌ الآخَرُ: ؎ ألا يا اسْمَعْ أعِظُكَ بِخِطْبَةٍ ∗∗∗ فَقُلْتُ سَمِعْنا فانْطِقِي وأصِيبِي (p-٥٣٣)وَتَحْتَمِلُ قِراءَةُ مَن شَدَّدَ "ألّا" أنَّ نَجْعَلَها بِمَعْنى التَخْضِيضِ، ويُقَدَّرُ هَذا النِداءُ بَعْدَها، ويَجِيءُ في الكَلامِ إضْمارٌ كَبِيرٌ ولَكِنَّهُ مُتَوَجِّهٌ، وسَقَطَتِ الألْفُ كَما كَتَبَتْ فِي: يا عِيسى، ويا قَوْمُ. وقَرَأ الأعْمَشُ: "هَلّا يَسْجُدُونَ"، وفي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ: "ألا هَلْ تَسْجُدُونَ" بِالتاءِ، وفي قِراءَةِ أُبَيٍّ: "ألّا تَسْجُدُوا" بِالتاءِ أيْضًا. و"الخَبْءُ": الخَفِيُّ مِنَ الأُمُورِ، وهو مِن: "خَبَّأتُ الشَيْءَ"، وخَبْءُ السَماءِ: مَطَرُها، وخَبْءُ الأرْضِ: كُنُوزُها ونَباتُها، واللَفْظَةُ -بَعْدَ هَذا- تَعُمْ كُلَّ خَفِيٍّ مِنَ الأُمُورِ، وبِهِ فَسَرَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "الخَبْءُ" بِسُكُونِ الباءِ، وبِالهَمْزِ، وقَرَأ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "الخَبَ" بِفَتْحِ الباءِ وتَرْكِ الهَمْزِ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ: "الخَبّا" بِألِفٍ مَقْصُورَةٍ، وحَكى سِيبَوَيْهِ أنَّ بَعْضَ العَرَبِ [يَقْلِبُ الهَمْزَةَ ألْفًا إذا كانَتْ مَفْتُوحَةً وقَبْلَها ساكِنٌ] ويَقْلِبُها واوًا إذا كانَتْ مَضْمُومَةً وقَبْلَها ساكِنٌ، ويَقْلِبُها ياءً إذا كانَتْ مَكْسُورَةً وقَبْلَها ساكِنٌ، ومَثَّلَ سِيبَوَيْهِ في ذَلِكَ بِالوَثْيِ، تَقُولُ: رَأيْتُ الوَثا، وهَذا الوَثْوُ، وعَجِبْتُ مِنَ الوَثْيِ، وكَذَلِكَ يَجِيءُ "الخَبا" في حالِ النَصْبِ، وتَقُولُ: اطَّلَعَتُ (p-٥٣٤)عَلى الخَبِيِ، وراقَنِي الخَبُو. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "وَيَعْلَمُ ما يُخْفُونَ وما يُعْلِنُونَ" بِياءِ الغائِبِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ القِراءَةُ تُعْطِي أنَّ الآيَةَ مِن كَلامِ الهُدْهُدِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ، وعاصِمْ في رِوايَةِ حَفْصٍ "وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ" بِتاءِ المُخاطَبَةِ، وهَذِهِ القِراءَةُ تُعْطِي أنَّ الآيَةَ مِن خِطابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وفي مُصْحَفِ ابْنِ كَعْبٍ: "ألّا تَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يَخْرُجُ الخَبا مِنَ السَماواتِ والأرْضِ ويَعْلَمُ سِرَّكم وما تُعْلِنُونَ". وخَصَّ العَرْشَ بِالذِكْرِ في قَوْلِهِ: ﴿رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ لِأنَّهُ أعْظَمُ المَخْلُوقاتِ، وما عَداهُ في ضِمْنِهِ وفي قَبْضَتِهِ. ثُمْ إنَّ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَلامُ أخَّرَ أمْرَ الهُدْهُدِ إلى أنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ حَقَّهُ مِن باطِلِهِ، فَسَوَّفَهُ بِالنَظَرِ في ذَلِكَ، وأمَرَ بِكِتابٍ فَكُتِبَ، وحَمَّلَهُ إيّاهُ، وأمْرَهُ بِإلْقائِهِ إلى القَوْمِ والتَوَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ، وقالَ وهَبَ بْنِ مُنَبِّهٍ: أمَرَهُ بِالتَوَلِّي حُسْنَ أدَبٍ لِيَتَنَحّى حَسَبَ ما يَتَأدَّبُ بِهِ مَعَ المُلُوكِ، بِمَعْنى: وكُنْ قَرِيبًا حَتّى تَرى مُراجَعاتِهِمْ، قالَ: وقَوْلُهُ: ﴿فانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ﴾ في مَعْنى التَقْدِيمِ عَلى قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: واتِّساقُ رُتْبَةِ الكَلامِ أظْهَرُ، أيْ: ألْقِهِ ثُمْ تَوَلَّ، وفي خِلالِ ذَلِكَ فانْظُرْ، وإنَّما أرادَ أنْ يَكِلَ الأمْرَ إلى حُكْمٍ ما في الكِتابِ دُونَ أنْ يَكُونَ الرَسُولُ مُلازِمُهُ وبِلا إلْحاحٍ. وقَرَأ نافِعٌ: "فَألْقِهِ" بِكَسْرِ الهاءِ، وفِرْقَةٌ: "فَألْقِهُ" بِضَمِّها، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ بِإشْباعٍ بَعْدَ الكَسْرَةِ في الهاءِ، ورَوى عنهُ ورَشٌّ بَعْدَ الهاءِ في الوَصْلِ بِياءٍ، وقَرَأ قَوْمٌ بِإشْباعِ واوٍ بَعْدَ الضَمَّةِ، وقَرَأ اليَزِيدِيُّ عن أبِي عَمْرُو، وعاصِمْ، وحَمْزَةَ: "فَألْقِهِ" بِسُكُونِ الهاءِ. ورُوِيَ عن وهَبَ بْنِ مُنَبِّهٍ في قَصَصِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ الهُدْهُدَ وصَلَ (p-٥٣٥)فَألْقى دُونَ هَذِهِ المَلِكَةِ حُجُبَ جُدْرانٍ، فَعَمَدَ إلى كُوَّةٍ كانَتْ بِلْقِيسُ صَنْعَتْها لِتَدْخُلَ مِنها الشَمْسُ عِنْدَ طُلُوعِها لِمَعْنى عِبادَتِها إيّاها، فَدَخَلَ مِنها ورَمى الكِتابَ عَلى بِلْقِيسَ وهي -فِيما يُرْوى- نائِمَةٌ، فَلَمّا انْتَبَهَتْ وجَدَتْهُ، فَراعَها وظَنَّتْ أنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَيْها أحَدٌ، ثُمْ قامَتْ فَوَجَدَتْ حالَها كَما عَهِدَتْهُ، فَنَظَرَتْ إلى الكُوَّةِ تَهَمُّمًا بِأمْرِ الشَمْسِ فَرَأتِ الهُدْهُدَ فَعَلِمَتْ أمْرَهُ، ثُمْ جَمَعَتْ أهْلَ مُلْكِها وعَلِيَّتَهم فَخاطَبَتُهم بِما يَأْتِي بَعْدُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب