الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ ﴿والَّذِي هو يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ ﴿وَإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾ ﴿والَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ﴾ ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِينِ﴾ ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وألْحِقْنِي بِالصالِحِينَ﴾ ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ ﴿واجْعَلْنِي مِن ورَثَةِ جَنَّةِ النَعِيمِ﴾ ﴿واغْفِرْ لأبِي إنَّهُ كانَ مِنَ الضالِّينَ﴾ ﴿وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ﴾ أثْنى إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ عَلى اللهِ تَعالى بِهَذِهِ الأوصافِ الَّتِي وُصِفَ اللهُ تَعالى بِها، والمُتَّصِفُ بِها يَسْتَحِقُّ الأوصافَ الفِعْلِيَّةَ الَّتِي تَخُصُّ البَشَرَ. و﴿الَّذِي خَلَقَنِي﴾ بِقُدْرَتِهِ (p-٤٩٠)﴿فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ أيْ: يُرْشِدُنِي إلى طاعَتِهِ، وقوله عزّ وجلّ: ﴿يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ﴾ تَجْدِيدٌ لِلنِّعْمَةِ في الرِزْقِ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الوَرّاقُ في كِتابِ الثَعْلَبِيِّ: المَعْنى: يُطْعِمُنِي بِلا طَعامٍ، ويَسْقِينِي بِلا شَرابٍ، كَما قالَ النَبِيُّ ﷺ: «إنِّي أبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي ويَسْقِينِ». وأسْنَدَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ المَرَضَ إلى نَفْسِهِ، والشِفاءَ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهَذا حُسْنُ الأدَبِ في العِبارَةِ، والكُلُّ مِن عِنْدِ اللهِ، وهَذا كَقَوْلِ الخِضْرِ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩]. وقالَ جَعْفَرٌ الصادِقُ: إذا مَرِضْتُ بِالذُنُوبِ، شَفانِي بِالتَوْبَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ هَذِهِ الأفْعالَ: [يَهْدِينِ يَسْقِينِ يَشْفِينِ - يُحْيِينِ] بِغَيْرِ ياءٍ، وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ إسْحاقَ: "يَهْدِينِ" بِالياءِ، وكَذَلِكَ ما بَعْدَهُ. وأوقَفَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ نَفْسَهُ عَلى الطَمَعِ في المَغْفِرَةِ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى شِدَّةِ خَوْفِهِ مَعَ مَنزِلَتِهِ وخُلَّتِهِ. وقَوْلُهُ: "خَطِيئَتِي" ذَهَبَ فِيهِ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ إلى أنَّهُ أرادَ كِذْباتِهِ الثَلاثَ: قَوْلُهُ: "هِيَ أُخْتِي" في شَأْنِ سارَّةَ، وقَوْلُهُ: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩]، وقَوْلُهُ: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهم هَذا﴾ [الأنبياء: ٦٣]، وقالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ بِالخَطِيئَةِ اسْمَ الجِنْسِ، قَدَّرَها في كُلِّ أمْرِهِ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا أظْهَرُ عِنْدِي؛ لِأنَّ تِلْكَ الثَلاثَ قَدْ خَرَّجَها كَثِيرٌ مِنَ العُلَماءِ عَلى المَعارِيضِ، وهي وإنْ كانَتْ كِذْباتٌ بِحُكْمِ قَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: «لَمْ يَكْذِبْ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ إلّا ثَلاثَ كِذْباتٍ»، وبِحُكْمِ ما في حَدِيثِ الشَفاعَةِ مِن قَوْلِهِ في شَأْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ (p-٤٩١)السَلامُ: «نَفْسِي نَفْسِي»، وذَكَرَ كِذْباتِهِ فَهي في مَصالِحٍ وعَوْنِ شَرْعٍ وحَقٍّ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "خَطِيئَتِي" بِالإفْرادِ، وقَرَأ الحَسَنُ: "خَطايايَ" بِالجَمْعِ. و"الحُكْمُ" الَّذِي دَعا فِيهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ هو الحِكْمَةُ والنُبُوَّةُ، ودُعاءُ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ في مِثْلِ هَذا هو في مَعْنى التَثْبِيتِ والدَوامِ. و"إلْحاقُهُ بِالصالِحِينَ": تَوْفِيقُهُ لِعَمَلٍ يَنْتَظِمُهُ في جُمْلَتِهِمْ أو يَجْمَعُ بَيْنَهُ وبَيْنَهم في الجَنَّةِ، وقَدْ أجابَهُ تَبارَكَ وتَعالى حَيْثُ قالَ: ﴿وَإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصالِحِينَ﴾ [النحل: ١٢٢]. و"لِسانُ الصِدْقِ" هو الثَناءُ وتَخْلِيدُ المَكانَةِ بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وكَذَلِكَ أجابَ اللهُ دَعْوَتَهُ، فَكُلُّ مِلَّةٍ تَتَمَسَّكُ بِهِ وتُعَظِّمُهُ، وهو عَلى الحَنِيفِيَّةِ الَّتِي جاءَ بِها مُحَمَّدٌ ﷺ. قالَ مَكِّيٌّ: وقِيلَ: مَعْنى سُؤالَهُ أنْ يَكُونَ مِن ذُرِّيَّتِهِ في آخِرِ الزَمانِ مَن يَقُومُ بِالحَقِّ فَأُجِيبَتِ الدَعْوَةُ في مُحَمَّدٍ ﷺ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مَعْنًى حَسَنٌ، إلّا أنَّ لَفْظَ الآيَةِ لا يُعْطِيهِ إلّا بِتَحَكُّمٍ في اللَفْظِ. (p-٤٩٢)وَلَمّا فَرَغَ مِن مَطالِبِ الدُنْيا طَلَبَ سَعادَةَ الآخِرَةِ وهي جَنَّةُ النَعِيمِ، وشَبَّهَها بِما يُورَثُ، قالَ تَعالى: ﴿تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِن عِبادِنا مِن كانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: ٦٣]، واسْتِغْفارُهُ لِأبِيهِ في هَذِهِ الآيَةِ هو قَبْلَ أنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ بِمَوْتِهِ عَلى الكُفْرِ أنَّهُ عَدُوٌّ لَهُ، أيْ مَحْتُومٌ عَلَيْهِ، وهو عَنِ المَوْعِدَةِ المَذْكُورَةِ. قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "واغْفِرْ لِأبَوِيَّ إنَّهُما كانا مِنَ الضالِّينَ". ﴿وَلا تُخْزِنِي﴾ إمّا مِنَ الخِزْيِ وهو الهَوانُ، وإمّا مِنَ الخَزايَةِ وهي الحَياءُ، والضَمِيرُ في "يَبْعَثُونَ" ضَمِيرُ العِبادِ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ، أو ضَمِيرُ الضالِّينَ، ويَكُونُ مِن جُمْلَةِ الِاسْتِغْفارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب