الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿قالَ فَعَلْتُها إذًا وأنا مِنَ الضالِّينَ﴾ ﴿فَفَرَرْتُ مِنكم لَمّا خِفْتُكم فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿قالَ فِرْعَوْنُ وما رَبُّ العالَمِينَ﴾ ﴿قالَ رَبُّ السَماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ﴾ ﴿قالَ لِمَن حَوْلَهُ ألا تَسْتَمِعُونَ﴾ ﴿قالَ رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾ ﴿قالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾ ﴿قالَ رَبُّ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وما بَيْنَهُما إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾
القائِلُ هُنا هو مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿فَعَلْتُها﴾ لِقَتْلِهِ القِبْطِيِّ، وقَوْلُهُ: "إذًا" صِلَةٌ في الكَلامِ، وكَأنَّها بِمَعْنى: حِينَئِذٍ، وقَوْلُهُ: ﴿وَأنا مِنَ الضالِّينَ﴾ قالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْناهُ: مِنَ الجاهِلِينَ بِأنَّ وكْزَتِي إيّاهُ تَأْتِي عَلى نَفْسِهِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَعْناهُ: مِنَ الناسِينَ لِذَلِكَ، ونَزَعَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: "وَأنا مِنَ الجاهِلِينَ"، ويُشْبِهُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى جِهَةِ التَفْسِيرِ.
وقَوْلُهُ: "حُكْمًا" يُرِيدُ النُبُوَّةَ وحِكْمَتُها، وقَرَأ عِيسى: "حُكُمًا" بِضَمِّ الحاءِ والكافِ، وقَوْلُهُ: ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ دَرَجَةٌ ثانِيَةٌ لِلنُّبُوَّةِ، فَرُبَّ نَبِيٍّ لَيْسَ بِرَسُولٍ.
(p-٤٧٦)ثُمْ حاجَّهُ عَلَيْهِ السَلامُ في مَنِّهِ عَلَيْهِ بِالتَرْبِيَةِ وتَرْكِ القَتْلِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أنْ عَبَّدْتَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾، واخْتَلَفَ الناسُ في تَأْوِيلِ هَذا الكَلامِ، فَقالَ قَتادَةُ: هَذا مِنهُ عَلى جِهَةِ الإنْكارِ عَلَيْهِ أنْ تَكُونَ نِعْمَةً، كَأنَّهُ قالَ: أوَ يَصِحُّ لَكَ أنْ تَعُدَّ عَلىَّ نِعْمَةَ تَرْكِ قَتْلِي مِن أجْلِ أنَّكِ ظَلَمْتَ بَنِي إسْرائِيلَ وقَتَلْتَهُمْ؟ أيْ: لَيْسَتْ نِعْمَةً؛ لِأنَّ الواجِبَ كانَ ألّا تَقْتُلَنِي وألّا تَقْتُلَهُمْ، وألّا تَسْتَعْبِدَنِي ولا تَسْتَعْبِدَهم بِالقَتْلِ ولا بِالخِدْمَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ. وقَرَأ الضَحّاكُ: "وَتِلْكَ نِعْمَةٌ ما لَكَ أنْ تَمُنَّها"، وهَذِهِ قِراءَةٌ تُؤَيِّدُ هَذا التَأْوِيلَ، وقالَ الأخْفَشُ: قِيلَ: الواوُ، ألِفُ الِاسْتِفْهامِ مَحْذُوفَةٌ، والمَعْنى: أوَ تِلْكَ؟ وهَذا لا يَجُوزُ إلّا إذا عادَلَتْها "أمْ" كَما قالَ:
؎ ................ تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ؟
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وفِي هَذا القَوْلِ تَكَلُّفٌ، وقَوْلُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ تَقْرِيرٌ بِغَيْرِ ألِفٍ، وهو صَحِيحٌ كَما قالَ قَتادَةُ، واللهُ المُعِينُ.
(p-٤٧٧)وَقالَ السُدِّيُ، والطَبَرِيُّ: هَذا الكَلامُ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ عَلى جِهَةِ الإقْرارِ بِالنَعْمَةِ، كَأنَّهُ يَقُولُ: "نَعَمْ، وتَرْبِيَتُكَ نِعْمَةٌ عَلَيَّ مِن حَيْثُ عَبَّدْتَ غَيْرِي وتَرَكْتَنِي، ولَكِنَّ ذَلِكَ لا يَدْفَعُ رِسالَتِي".
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ولِكُلِّ وجْهٍ ناحِيَةٌ مِنَ الِاحْتِجاجِ، فالأوَّلُ ماضٍ في طَرِيقِ المُخالَفَةِ لِفِرْعَوْنَ ونَقْضِ كَلامِهِ، والثانِي مُبْدٍ مِن مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أنَّهُ مُنْتَصِفٌ مِن نَفْسِهِ مُعْتَرِفٌ بِالحَقِّ، ومَتى حَصَلَ أحَدُ المُتَجادِلَيْنِ في هَذِهِ الرُتْبَةِ، وكانَ حَجِيجُهُ في ضِدِّها غَلَبَ المُتَّصِفُ بِذَلِكَ، وكانَ قَوْلُهُ أوقَعَ في النُفُوسِ.
ولَمّا لَمْ يَجِدْ فِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللهُ- هَذا الطَرِيقَ مِن تَقْرِيرِهِ عَلى التَنْزِيهِ وغَيْرِ ذَلِكَ، رَجَعَ إلى مُعارَضَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ في قَوْلِهِ: ﴿وَما رَبُّ العالَمِينَ﴾ فاسْتَفْهَمَهُ اسْتِفْهامًا عن مَجْهُولٍ مِنَ الأشْياءِ، قالَ مَكِّيٌّ: كَما يَسْتَفْهِمُ عَنِ الأجْناسِ، فَلِذَلِكَ اسْتَفْهَمَ بِـ "ما"، وقَدْ ورَدَ لَهُ اسْتِفْهامٌ بِـ "مَن" في مَوْضِعٍ آخَرَ، ويُشْبِهُ أنَّها مَواطِنُ، فَأجابَهُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِالصِفاتِ الَّتِي يَتَبَيَّنُ السامِعُ مِنها أنَّهُ لا مُشارَكَةَ لِفِرْعَوْنَ فِيها، وأنَّها رُبُوبِيَّةُ السَماواتِ والأرْضِ، وهَذِهِ المُجادَلَةُ مِن فِرْعَوْنَ تَدُلُّ عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ دَعاهُ إلى التَوْحِيدِ، فَقاَل فِرْعَوْنُ عِنْدَ ذَلِكَ: "ألا تَسْتَمِعُونَ" عَلى مَعْنى الإغْراءِ أوِ التَعَجُّبِ مِن شُنْعَةِ المَقالَةِ؛ إذْ كانَتْ عَقِيدَةُ القَوْمِ أنَّ فِرْعَوْنَ رَبُّهُمُ ومَعْبُودُهُمْ، والفَراعِنَةُ قَبْلَهُ كَذَلِكَ، وهَذِهِ ضَلالَةٌ مِنها في مِصْرَ ودِيارِها إلى اليَوْمِ بَقِيَّةٌ، فَزادَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ في البَيانِ بِقَوْلِهِ: ﴿رَبُّكم ورَبُّ آبائِكُمُ الأوَّلِينَ﴾، فَقالَ فِرْعَوْنُ حِينَئِذٍ -عَلى جِهَةِ الِاسْتِخْفافِ-: ﴿إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكم لَمَجْنُونٌ﴾. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أرْسَلَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، فَزادَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ في بَيانِ الصِفاتِ الَّتِي تُظْهِرُ نَقْصَ فِرْعَوْنَ، وتُبَيِّنُ أنَّهُ في غايَةِ البُعْدِ عَنِ القُدْرَةِ عَلَيْها، وهي رُبُوبَيَّةُ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، ولَمْ يَكُنْ لِفِرْعَوْنَ إلّا (p-٤٧٨)مُلْكُ مِصْرَ مِنَ البَحْرِ إلى أسْوانَ وأرْضِ الإسْكَنْدَرِيَّةَ، وفي قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأصْحابِهِ: "رَبُّ المَشارِقِ والمَغارِبِ وما بَيْنَهُما".
{"ayahs_start":20,"ayahs":["قَالَ فَعَلۡتُهَاۤ إِذࣰا وَأَنَا۠ مِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ","فَفَرَرۡتُ مِنكُمۡ لَمَّا خِفۡتُكُمۡ فَوَهَبَ لِی رَبِّی حُكۡمࣰا وَجَعَلَنِی مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ","وَتِلۡكَ نِعۡمَةࣱ تَمُنُّهَا عَلَیَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ","قَالَ فِرۡعَوۡنُ وَمَا رَبُّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِینَ","قَالَ لِمَنۡ حَوۡلَهُۥۤ أَلَا تَسۡتَمِعُونَ","قَالَ رَبُّكُمۡ وَرَبُّ ءَابَاۤىِٕكُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ","قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ ٱلَّذِیۤ أُرۡسِلَ إِلَیۡكُمۡ لَمَجۡنُونࣱ","قَالَ رَبُّ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡقِلُونَ"],"ayah":"وَتِلۡكَ نِعۡمَةࣱ تَمُنُّهَا عَلَیَّ أَنۡ عَبَّدتَّ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق