الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ ﴿نَزَلَ بِهِ الرُوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ﴾ ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ ﴿وَإنَّهُ لَفي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ ﴿أوَلَمْ يَكُنْ لَهم آيَةً أنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ ﴿وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الأعْجَمِينَ﴾ ﴿فَقَرَأهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ الضَمِيرُ في "إنَّهُ" لِلْقُرْآنِ، أيْ: إنَّهُ لَيْسَ بِكَهانَةٍ ولا سِحْرٍ، وإنَّما هو مِن عِنْدِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، و﴿الرُوحُ الأمِينُ﴾: جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ بِإجْماعٍ، ونَزَلَ بِاللَفْظِ العَرَبِيِّ والمَعانِي الثابِتَةِ في الصَدْرِ والمَصاحِفِ، والضَمِيرُ عَلى ذَلِكَ كُلُّهُ عائِدٌ في "بِهِ". و"اللِسانُ" عِبارَةٌ عَنِ اللُغَةِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ -فِي رِوايَةِ حَفْصٍ -: "نَزَلَ" خَفِيفَةَ الزايِ "الرُوحُ" بِالرَفْعِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمْ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِشَدِّ الزايِ "الرُوحَ" نَصْبًا، ورَجَّحَها أبُو حاتِمٍ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ﴾ [البقرة: ٩٧]، (p-٥٠٥)وَبِقَوْلِهِ: ﴿لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾. وقَوْلُهُ: "بِهِ" في مَوْضِعِ الحالِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالكُفْرِ وهم قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ [المائدة: ٦١]. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ إشارَةٌ إلى حِفْظِهِ إيّاهُ، وعَلَّلَ النُزُولَ عَلى قَلْبِهِ بِكَوْنِهِ مِنَ المُنْذِرِينَ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُنْذِرَ بِهِ إلّا بَعْدَ حِفْظِهِ. وقَوْلُهُ: "بِلِسانٍ" يُمْكِنُ أنْ يَتَعَلَّقَ الباءَ بِـ "نَزَلَ بِهِ"، وهَذا عَلى «أنَّ النَبِيَّ ﷺ إنَّما كانَ يَسْمَعُ مِن جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ حُرُوفًا عَرَبِيَّةً»، وهو القَوْلُ الصَحِيحُ، وتَكُونُ صَلْصَلَةُ الجَرَسِ صِفَةً لِشِدَّةِ الصَوْتِ وتَداخُلِ حُرُوفِهِ وعَجَلَةِ مَوْرِدِهِ وإغْلاظِهِ، ويُمْكِنُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: "لِتَكُونَ"، وتُمْسِكَ بِهَذا مَن رَأى أنَّ النَبِيَّ ﷺ كانَ يَسْمَعُ مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ يُتَفَهَّمُ لَهُ مِنهُ القُرْآنُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ يَقْتَضِي أنَّ بَعْضَ ألْفاظِ القُرْآنِ مِن لَدُنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ ﷺ، وهَذا مَرْدُودٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّهُ لَفي زُبُرِ الأوَّلِينَ﴾ أيْ في كُتُبِهِمْ، يُرِيدُ أنَّ القُرْآنَ مَذْكُورٌ في الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ القَدِيمَةِ مُنَبِّهٌ عَلَيْهِ مُشارٍ إلَيْهِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "زُبُرُ" بِضَمِّ الباءِ، وقَرَأ الأعْمَشُ بِسُكُونِها. ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِأنَّهم كانَ يَنْبَغِي أنْ يُصَحِّحَ عِنْدَهم أمْرُهُ، كانَ عُلَماءُ بَنِي إسْرائِيلَ يَعْلَمُونَهُ، كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلامٍ ونَحْوِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أيْضًا -فِيما حَكى عنهُ الثَعْلَبِيُّ -: إنَّ أهْلَ مَكَّةَ بَعَثُوا إلى أحْبارِ يَثْرِبَ يَسْألُونَهم عَنِ النَبِيِّ ﷺ، فَقالُوا: هَذا زَمانُهُ، ووَصَفُوا بَعْثَهُ، ثُمَّ خَلَطُوا في أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ويُؤَيِّدُ هَذا كَوْنُ الآيَةِ مَكِّيَّةٌ، وقالَ مُقاتِلٌ: هَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ، فَمَن قالَ: إنَّها مَكِّيَّةٌ، ذَهَبَ إلى أنَّ عُلَماءَ بَنِي إسْرائِيلَ ذَكَرُوا أنَّ في التَوْراةِ صِفَةَ النَبِيِّ ﷺ، وهَذِهِ الإشارَةُ إلى (p-٥٠٦)ذَلِكَ. وكُلُّهم قَرَأ: "يَكُنْ" بِالياءِ "آيَةً" نَصْبًا، غَيْرُ ابْنِ عامِرٍ فَإنَّهُ قَرَأ: "تَكُنْ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ: "آيَةٌ" رَفْعًا، وهي قِراءَةُ عاصِمٍ الجَحْدَرِيِّ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "أنْ يَعْلَمَهُ" بِالياءِ مِن تَحْتٍ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: "أنْ تَعْلَمَهُ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ. ثُمَّ سَلّى مُحَمَّدًا ﷺ عن صُدُودِ قَوْمِهِ عَنِ الشَرْعِ بِأنْ أخْبَرَ أنَّ هَذا القُرْآنَ العَرَبِيَّ لَوْ سَمِعُوهُ مِن أعْجَمٍ، أيْ: مِن حَيَوانٍ غَيْرِ ناطِقٍ، أو جَمادٍ، -والأعْجَمُ: كُلُّ ما لا يُفْصِحُ- ما كانُوا يُؤْمِنُونَ، أيْ: قَدْ خَتَمَ الكُفْرُ عَلَيْهِمْ فَلا سَبِيلَ إلى إيمانِهِمْ، و"الأعْجَمُونَ" جَمْعُ أعْجَمٍ، وهو الَّذِي لا يُفْصِحُ، وإنْ كانَ عَرَبِيُّ اللِسانِ يُقالُ لَهُ: أعْجَمُ، وكَذَلِكَ يُقالُ لِلْحَيَواناتِ والجَماداتِ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «جُرْحُ العَجْماءِ جِبارٌ»، وأسْنَدَ الطَبَرَيُّ عن عَبْدِ اللهِ بْنِ مُطِيعٍ أنَّهُ قالَ حِينَ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ وهو واقِفٌ بِعَرَفَةَ: "جَمَلِي هَذا أعْجَمُ، فَلَوْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ، ما كانُوا يُؤْمِنُونَ"، والعَجَمِيُّ هو الَّذِي نَسَبُهُ في العَجَمِ وإنْ كانَ فَصِيحَ اللِسانِ. وقَرَأ الحَسَنُ: "الأعْجَمِيَّيْنِ"، قالَ أبُو حاتِمْ: أرادَ جَمْعَ "الأعْجَمِيِّ" المَنسُوبِ، وقالَ بَعْضُ النَحْوِيِّينَ: الأعْجَمُونَ جَمْعُ أعْجَمٍ، وهو أعْجَمُ، أُضِيفَ فَقَوِيَتْ بِالإضافَةِ رُتْبَتُهُ في الأسْماءِ فَجَمَعَ، ولَيْسَ بِأعْجَمِيِّ النِسْبَةِ إلى العَجَمِ. وقَرَأ جُمْهُورُ (p-٥٠٧)الناسِ: "أوَ لَمْ يَكُنْ" بِالياءِ "لَهم آيَةً" بِالنَصْبِ، وقَرَأ: "أوَ لَيْسَ لَكم آيَةٌ" ابْنُ مَسْعُودٍ، والأعْمَشُ، وفي مُصْحَفِ أُبَيٍّ "ألَيْسَ" بِغَيْرِ واوٍ أو فاءٍ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَكُنْ" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ "آيَةٌ" رَفْعًا، وقَرَأ بَعْضُ مَن قَرَأ بِالتاءِ "آيَةً" بِالنَصْبِ، وسائِرُهم بِالرَفْعِ، وقَدْ مَضى ذِكْرُ ما في السَبْعِ، وذَكَرَ الطَبَرِيُّ أنَّ الضَمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿وَإنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العالَمِينَ﴾ عائِدٌ عَلى "الذِكْرِ" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِن الرَحْمَنِ مُحْدَثٍ﴾ [الشعراء: ٥].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب