قوله عزّ وجلّ:
﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا ويُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وسَلامًا﴾ ﴿خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا﴾ ﴿قُلْ ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزامًا﴾
قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "يُجازَوْنَ" بِألِفٍ، و "الغُرْفَةُ" مِن مَنازِلِ الجَنَّةِ، وهي الغُرَفُ فَوْقَ الغُرَفِ، وهي اسْمُ جِنْسٍ، كَما قالَ:
؎ ولَوْلا الحَبَّةُ السَمْرا ءُ لَمْ أحْلُلْ بِوادِيكُمْ
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو: "وَيُلَقَّوْنَ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ اللامِ وشَدِّ القافِ، وهي قِراءَةُ أبِي جَعْفَرٍ، وشَيْبَةَ، والحَسَنِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمْ، وطَلْحَةُ، ومُحَمَّدٌ اليَمانِيُّ، ورُوِيَتْ عَنِ النَبِيِّ ﷺ: "وَيَلْقَوْنَ" بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ اللامِ وتَخْفِيفِ القافِ، واخْتُلِفَ عن عاصِمْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي﴾ الآيَةُ. أمَرٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ أنْ يُخاطِبَ بِذَلِكَ، و "ما" تَحْتَمِلُ النَفْيَ، وتَحْتَمِلُ التَقْرِيرَ، والكَلامُ في نَفْسِهِ يَحْتَمِلُ تَأْوِيلاتٍ: أحَدُها أنْ تَكُونَ الآيَةُ إلى قَوْلِهِ: ﴿لَوْلا دُعاؤُكُمْ﴾ خِطابًا لِجَمِيعِ الناسِ، فَكَأنَّهُ قالَ لِقُرَيْشٍ مِنهُمْ: (p-٤٦٥)ما يُبالِي اللهُ بِكُمْ، ولا يَنْظُرُ إلَيْكم لَوْلا عِبادَتُكم إيّاهُ أنْ لَوْ كانَتْ، وذَلِكَ الَّذِي يَعْبَأُ بِالبَشَرِ مِن أجْلِهِ، قالَ تَعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]. وقالَ النَقّاشُ: المَعْنى: لَوْلا اسْتِغاثَتُكم إلَيْهِ في الشَدائِدِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَهو عُرْفُ الناسِ المَرْعِيُّ فِيهِمْ. وقَرَأ ابْنُ الزُبَيْرِ وغَيْرُهُ: "فَقَدْ كَذَّبَ الكافِرُونَ"، وهَذا يُؤَيِّدُ أنَّ الخِطابَ بِـ ﴿ما يَعْبَأُ بِكُمْ﴾ هو لِجَمِيعِ الناسِ، ثُمْ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ: فَأنْتُمْ قَدْ كَذَّبْتُمْ ولَمْ تَعْبُدُوهُ، فَسَوْفَ يَكُونُ العَذابُ أو يَكُونُ التَكْذِيبُ الَّذِي هو سَبَبُ العَذابِ- لِزامًا.
والثانِي أنْ يَكُونَ الخِطابُ بِالآيَتَيْنِ لِقُرَيْشٍ خاصَّةً، أيْ: ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمُ الأصْنامَ دُونَهُ، فَإنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَعْذِيبَكم.
والثالِثُ وهو قَوْلُ مُجاهِدٍ: ما يَعْبَأُ بِكم رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكم إلى شَرْعِهِ، فَوَقَعَ مِنكُمُ الكُفْرُ والإعْراضُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والمَصْدَرُ في هَذا التَأْوِيلِ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ، وفي الأوَّلَيْنَ مُضافٌ إلى الفاعِلِ، و "يَعْبَأُ" مُشْتَقٌّ مِنَ العِبْءِ وهو مِنَ الثِقَلِ الَّذِي يُعَبَّأُ ويُرَتَّبُ كَما يُعْبَّأُ الجَيْشُ. قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: قَرَأ ابْنُ الزُبَيْرِ وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "فَقَدْ كَذَّبَ الكافِرُونَ"، قالَ الزَهْراوِيُّ: وهي قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، قالَ: وهي عَلى التَفْسِيرِ.
وأكْثَرُ الناسِ عَلى أنَّ اللِزامَ المُشارَ إلَيْهِ في هَذا المَوْضِعِ هو يَوْمُ بَدْرٍ، وهو قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، والمَعْنى: فَسَوْفَ يَكُونُ جَزاءُ التَكْذِيبِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو تَوَعُّدٌ بِعَذابِ الآخِرَةِ. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: اللِزامُ هو التَكْذِيبُ نَفْسُهُ، أيْ: لا يُعْطَوْنَ تَوْبَةً، ذَكَرَهُ الزَهْراوِيُّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- أيْضًا: اللِزامُ المَوْتُ، وهَذا نَحْوُ القَوْلِ بِبَدْرٍ، وإنْ أرادَ بِهِ مُتَأوِّلٌ المَوْتَ المُعْتادَ في الناسِ عُرْفًا فَهو ضَعِيفٌ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "لِزامًا" بِكَسْرِ اللامِ، مِن لُوزِمْ، وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ لِصَخْرِ الغَيِّ:(p-٤٦٦)
؎ فَإمّا يَنْجُوا مِن حَتْفِ أرْضٍ ∗∗∗ فَقَدْ لَقِيا حُتُوفَهُما لِزامًا
وقَرَأ أبُو السَمالِ: "لَزامًا" بِفَتْحِ اللامِ، مِن لَزِمْ، واللهُ أعْلَمُ.
كَمُلَ تَفْسِيرُ سُورَةِ الفُرْقانِ والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ
والصَلاةُ والسَلامُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وعَلى آلِهِ وصَحْبِهُ أجْمَعِينَ
{"ayahs_start":75,"ayahs":["أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُجۡزَوۡنَ ٱلۡغُرۡفَةَ بِمَا صَبَرُوا۟ وَیُلَقَّوۡنَ فِیهَا تَحِیَّةࣰ وَسَلَـٰمًا","خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ حَسُنَتۡ مُسۡتَقَرࣰّا وَمُقَامࣰا","قُلۡ مَا یَعۡبَؤُا۟ بِكُمۡ رَبِّی لَوۡلَا دُعَاۤؤُكُمۡۖ فَقَدۡ كَذَّبۡتُمۡ فَسَوۡفَ یَكُونُ لِزَامَۢا"],"ayah":"خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ حَسُنَتۡ مُسۡتَقَرࣰّا وَمُقَامࣰا"}