الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وهم لَها سابِقُونَ﴾ لَمّا فَرَغَ ذِكْرُ الكَفَرَةِ وتَوَعُّدِهِمْ عَقَّبَ ذَلِكَ ذِكْرَ المُؤْمِنِينَ ووَعَدَهُمْ، وذَكَرَ ذَلِكَ بِأبْلَغِ صِفاتِهِمْ. و"الإشْفاقُ" أبْلَغُ التَوَقُّعِ والخَوْفِ، و"مِن" في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن خَشْيَةِ﴾ لِبَيانِ جِنْسِ الإشْفاقِ، والإشْفاقُ إنَّما هو مِن عَذابِ اللهِ -تَعالى- و"مِن" في قَوْلِنا: "مِن عَذابِ اللهِ" هي لِابْتِداءِ غايَةٍ. و"الآيَةُ" تَعُمُ القُرْآنَ وتَعُمُ العِبَرُ والمَصْنُوعاتُ الَّتِي لِلَّهِ تَعالى وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا فِيهِ نَظَرٌ واعْتِبارٌ. وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ (p-٣٠٣)ثُمْ ذَكَّرَهم -تَعالى- مِنَ الطَرَفِ الآخَرِ وهو نَفْيُ الإشْراكِ؛ لِأنَّ لِكُفّارِ قُرَيْشٍ أنْ يَقُولُوا: ونَحْنُ نُؤْمِنُ بِآياتِ رَبِّنا، ونُرِيدُ أنْ نُصَدِّقَ بِأنَّهُ المُخْتَرِعُ الخالِقُ، فَذَكَرَ تَعالى نَفْيَ الإشْراكِ الَّذِي لا حَظَّ لَهم فِيهِ بِسَبَبِ أصْنامِهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ مَعْناهُ: يُعْطُونَ ما أعْطَوْا، وقالَ الطَبَرِيُّ: يُرِيدُ الزَكاةَ المَفْرُوضَةَ وسائِرَ الصَدَقَةِ، ورُوِيَ نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- ومُجاهِدٌ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وإنَّما ضَمَّهم إلى هَذا التَخْصِيصِ أنَّ العَطاءَ مُسْتَعْمَلٌ في المالِ عَلى الأغْلَبِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما- وابْنُ جُبَيْرٍ: هو عامٌّ في جَمِيعِ أعْمالِ البِرِّ، وهَذا أحْسَنُ، كَأنَّهُ قالَ: والَّذِينَ يُعْطُونَ مِن أنْفُسِهِمْ في طاعَةِ اللهِ ما بَلَغَهُ جُهْدُهم. وقَرَأتْ عائِشَةُ أُمُ المُؤْمِنِينَ، وابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والأعْمَشُ: "يَأْتُونَ ما أتَوْا"، ومَعْناهُ: يَفْعَلُونَ ما فَعَلُوا، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ النَبِيِّ -ﷺ- وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إلى أنَّ مَعْناهُ: مِنَ (p-٣٠٤)المَعاصِي، وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ في جَمِيعِ الأعْمالِ طاعَتِها ومَعْصِيَتِها، وهَذا أمْدَحُ، وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ «عن عائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعالى عنها- أنَّها قالَتْ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ الَّذِي يَزْنِي ويَسْرِقُ؟ قالَ: لا يا بِنْتَ أبِي بَكْرٍ، بَلْ هي في الرَجُلِ يَصُومُ ويَتَصَدَّقُ وقَلْبُهُ وجِلٌ يَخافُ ألّا يُتَقَبَّلَ مِنهُ». (p-٣٠٥)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولا نَظَرَ مَعَ الحَدِيثِ. و"الوَجَلُ" نَحْوَ الإشْفاقِ والخَوْفِ، وصُورَةُ هَذا الوَجَلِ. أمّا المُخْلِطُ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ أبَدًا تَحْتَ خَوْفٍ مِن أنْ يَكُونَ يُنَفَّذُ عَلَيْهِ الوَعِيدُ بِتَخْلِيطِهِ، وأمّا التَقِيُّ والتائِبُ فَخَوْفُهُ مِنَ الخاتِمَةِ وما يَطَّلِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ المَوْتِ، وفي قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ تَنْبِيهٌ عَلى الخاتِمَةِ. وقالَ الحَسَنُ: مَعْناهُ: الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ما يَفْعَلُونَ مِنَ البَرِّ ويَخافُونَ ألّا يُنْجِيَهم ذَلِكَ مِن عَذابِ رَبِّهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ عِبارَةٌ حَسَنَةٌ. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أيْضًا أنَّهُ قالَ: المُؤْمِنُ يَجْمَعُ إحْسانًا وشَفَقَةً، والمُنافِقُ يَجْمَعُ إساءَةً وأمْنًا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "أنَّهُمْ" بِفَتْحِ الألِفِ، والتَقْدِيرُ: بِأنَّهم أو لِأنَّهم أو مِن أجْلِ أنَّهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "وَجِلَةٌ" عامِلَةٌ في "أنَّ" مِن حَيْثُ إنَّها بِمَعْنى: خائِفَةٌ. وقَرَأ الأعْمَشُ: "إنَّهُمْ" بِالكَسْرِ عَلى إخْبارٍ مَقْطُوعٍ في ضِمْنِهِ تَخْوِيفٌ. ثُمْ أخْبَرَ -تَعالى- عنهم أنَّهم يُبادِرُونَ إلى فِعْلِ الخَيِّراتِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُسارِعُونَ"، وقَرَأ الحُرُّ النَحْوِيُّ: "يُسْرِعُونَ" و"أنَّهم إلَيْها سابِقُونَ"، وهَذا قَوْلُ بَعْضِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى: "لَها"، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: مِن أجْلِها سابِقُونَ، فالسابِقُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- هو إلى رِضْوانِ اللهِ، وعَلى الأوَّلِ هو إلى الخَيْراتِ، وقالَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عنهُما-: المَعْنى: سَبَقَتْ لَهُمُ السَعادَةُ في الأزَلِ فَهم لَها، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ بِأنَّ اللامَ مُتَمَكِّنَةٌ في المَعْنى. (p-٣٠٦)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب