الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكم أُمَّةً واحِدَةً وأنا رَبُّكم فاتَّقُونِ﴾ ﴿فَتَقَطَّعُوا أمْرَهم بَيْنَهم زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ ﴿فَذَرْهم في غَمْرَتِهِمْ حَتّى حِينٍ﴾ ﴿أيَحْسَبُونَ أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ﴾ ﴿نُسارِعُ لَهم في الخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ﴾ قَرَأ عاصِمْ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "وَإنَّ هَذِهِ" بِكَسْرِ الألِفِ وشَدِّ النُونِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "وَأنَّ هَذِهِ" بِفَتْحِ الألِفِ وتَخْفِيفِ "أنْ". وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو: "وَأنَّ هَذِهِ" بِفَتْحِ الألِفِ وتَشْدِيدِ "أنَّ". فالقِراءَةُ الأُولى بَيِّنَةٌ عَلى القَطْعِ، وأمّا فَتْحُ الألِفِ وتَشْدِيدُ النُونِ فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهٍ أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ آخِرًا بِـ "فاتَّقُونِ" عَلى تَقْدِيرِ: "لِأنَّ"، أيْ: فاتَّقَوْنِ لِأنَّ أُمَّتَكم أُمَّةً واحِدَةً وأنِّي رَبُّكُمْ، وهَذا عِنْدَهُ نَحْوَ قَوْلِهِ -عَزَّ وجَلَّ-: ﴿وَأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أحَدًا﴾ [الجن: ١٨].و"أنَّ" عِنْدَهُ في مَوْضِعِ خَفْضٍ، وهي عِنْدَ الخَلِيلِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ لَمّا زالَ الخافِضُ، وقَدْ عَكَسَ هَذا الَّذِي نُسِبَتْ إلَيْهِما بَعْضُ الناسِ، وقالَ الفِراءُ: "أنَّ" مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: واعْلَمُوا أوِ احْفَظُوا. وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ: "أُمَّةٌ واحِدَةٌ" بِالرَفْعِ عَلى البَدَلِ. وقَرَأ نافِعٌ وعاصِمْ وأبُو عَمْرٍو: "أُمَّةً واحِدَةً" بِالنَصْبِ عَلى الحالِ، وقِيلَ عَلى البَدَلِ مِن "هَذِهِ"، وفي هَذا نَظَرٌ. وهَذِهِ الآيَةُ تُقَوِّي أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرُسُلُ﴾ [المؤمنون: ٥١] إنَّما هو مُخاطَبَةٌ لِجَمِيعِهِمْ، وأنَّهُ (p-٣٠١)بِتَقْرِيرِ حُضُورِهِمْ، وتَجِيءُ هَذِهِ الآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ: وقُلْنا لِلنّاسِ، وإذا قُدِّرَتْ ﴿يا أيُّها الرُسُلُ﴾ [المؤمنون: ٥١] مُخاطَبَةٌ لِمُحَمَّدٍ -ﷺ- قَلِقَ اتِّصالُ هَذِهِ واتِّصالُ قَوْلِهِ: ﴿فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ﴾، أمّا إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأنا رَبُّكم فاتَّقُونِ﴾ وإنْ كانَ قِيلٌ لِلْأنْبِياءِ فَأُمَمُهم داخِلُونَ بِالمَعْنى فَيَحْسُنُ بَعْدَ ذَلِكَ اتِّصالُ "فَتَقَطَّعُوا"، ومَعْنى "الأُمَّةُ" هُنا المِلَّةُ والشَرِيعَةُ، والإشارَةُ بِـ"هَذِهِ" إلى الحَنِيفِيَّةِ السَمْحَةِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ -عَلَيْهِ السَلامُ- وهو دِينُ الإسْلامِ. وقَوْلُهُ: "فَتَقَطَّعُوا" يُرِيدُ الأُمَمَ، أيِ: افْتَرَقُوا، ولَيْسَ بِفِعْلٍ مُطاوِعٍ كَما تَقُولُ "تَقْطَعَ الثَوْبُ"، بَلْ هو فِعْلٌ مُتَعَدٍّ بِمَعْنى "قَطَعُوا"، ومِثْلُهُ تُجَهِّمَنِي اللَيْلَ، وتُخَوِّفَنِي السَيْرَ، وتُعَرِّفَنِي الزَمَنَ. وقَرَأ نافِعٌ: "زُبُرًا" بِضَمِّ الزايِ والباءِ، جَمْعَ زَبُورٍ، وقَرَأ الأعْمَشُ، وأبُو عَمْرٍو بِخِلافِ-: "زُبُرًا" بِضَمِّ الزايِ وفَتْحِ الباءِ، فَأمّا الأُولى فَتَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ:أحَدُهُما: أنَّ الأُمَمَ تَنازَعَتْ أمْرَها كُتُبًا مُنَزَّلَةً، فاتَّبَعَتْ فِرْقَةٌ الصُحُفَ وفِرْقَةٌ التَوْراةَ وفِرْقَةٌ الإنْجِيلَ، ثُمْ حَرَّفَ الكُلُّ وبَدَّلَ وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ. والثانِي أنَّهم تَنازَعُوا أمْرَهم كُتُبًا وضَعُوها وضَلالاتٍ ألَّفُوها، وهَذا قَوْلُ ابْنُ زَيْدٍ، وأمّا القِراءَةُ الثانِيَةُ فَمَعْناها: فُرُقًا كَزُبُرَ الحَدِيدِ. ثُمْ ذَكَرَ تَعالى أنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنهم مُعْجَبٌ بِرَأْيِهِ وضَلالَتِهِ، وهَذِهِ غايَةُ الضَلالِ؛ لِأنَّ المُرْتابَ بِما عِنْدَهُ يَنْظُرُ في طَلَبِ الحَقِّ، ومِن حَيْثُ كانَ ذِكْرُ الأُمَمِ في هَذِهِ الآيَةِ مِثالًا لِقُرَيْشٍ خاطَبَ مُحَمَّدًا -عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ- في شَأْنِهِمْ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: "فَذَرْهُمْ"، أيْ: فَذَرْ هَؤُلاءِ الَّذِينَ هم بِمَنزِلَةِ مَن تَقَدَّمَ.و"الغَمْرَةُ": ما عَمَّهم مِن ضَلالِهِمْ وفَعَلَ بِهِ فِعْلَ الماءِ الغَمْرِ لِما حَصُلَ فِيهِ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ: "فَذَرْهم في غَمَراتِهِمْ". و"حَتّى حِينٍ" أيْ: إلى وقْتِ فَتْحٍ فِيهِمْ غَيْرُ مَحْدُودٍ. وفي هَذِهِ الآيَةِ مُوادَعَةٌ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَيْفِ. ثُمْ وقَّفَهم عَلى خَطَأِ رَأْيِهِمْ في أنَّ نِعْمَةَ اللهِ عِنْدَهم بِالمالِ ونَحْوِهُ إنَّما هي لِرِضاهُ عن حالِهِمْ، وبَيَّنَ -تَعالى- أنَّ ذَلِكَ إنَّما هو إمْلاءٌ واسْتِدْراجٌ، وخَبَرُ "أنَّ" في قَوْلِهِ: "نُسارِعُ". وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "نُسارِعُ" بِنُونِ العَظَمَةِ، وفي الكَلامِ -عَلى هَذِهِ القِراءَةِ- ضَمِيرٌ (p-٣٠٢)عائِدٌ تَقْدِيرُهُ: "لَهم بِهِ". وقَرَأ عَبْدُ الرَحْمَنِ بْنُ أبِي بَكْرَةَ: "يُسارِعُ" بِالياءِ وكَسْرِ الراءِ بِمَعْنى أنَّ إمْدادَنا يُسارِعُ، ولا ضَمِيرَ مَعَ هَذِهِ القِراءَةِ إلّا ما يَتَضَمَّنُ الفِعْلَ، ورُوِيَ عن أبِي بَكْرَةَ المَذْكُورِ "يُسارَعُ" بِفَتْحِ الراءِ، وقَرَأ الحُرُّ النَحْوِيُّ: "نُسْرِعُ" بِالنُونِ وسُقُوطِ الألِفِ، و"الخَيْراتُ" هُنا تَعُمُ الدُنْيا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ لا يَشْعُرُونَ﴾ وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ، و"الشُعُورُ" مَأْخُوذٌ مِنَ الشِعارِ وهو ما بَلِيَ الإنْسانُ مِن ثِيابِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب