الباحث القرآني

قَوْلُهُ -عَزَّ وجَلَّ-: ﴿وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا في مِرْيَةٍ مِنهُ حَتّى تَأْتِيَهُمُ الساعَةُ بَغْتَةً أو يَأْتِيَهم عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ﴾ ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهم فالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ في جَنّاتِ النَعِيمِ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولَئِكَ لَهم عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أو ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهِ رِزْقًا حَسَنًا وإنَّ اللهِ لَهو خَيْرُ الرازِقِينَ﴾ ﴿لَيُدْخِلَنَّهم مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وإنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ ﴿ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إنَّ اللهُ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ يُولِجُ اللَيْلَ في النَهارِ ويُولِجُ النَهارِ في اللَيْلَ وأنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ هو الحَقُّ وأنَّ ما يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هو الباطِلُ وأنَّ اللهَ هو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ "المِرْيَةُ": الشَكُّ، والضَمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: "مِنهُ" قالَتْ فِرْقَةٌ: هو عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: عَلى مُحَمَّدٍ -ﷺ- وقالَتْ فِرْقَةٌ: عَلى ما ألْقى الشَيْطانُ، وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ أيْضًا: عَلى سُجُودِ النَبِيِّ -ﷺ- في سُورَةِ النَجْمِ، و"الساعَةُ" قالَتْ فِرْقَةٌ: أرادَ يَوْمَ القِيامَةِ، "واليَوْمُ العَقِيمُ" يَوْمُ بَدْرٍ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: "الساعَةُ" ساعَةُ مَوْتِهِمْ أو قَتْلِهِمْ في الدُنْيا كَيَوْمِ بَدْرٍ ونَحْوِهُ، و"اليَوْمُ العَقِيمُ" يَوْمُ القِيامَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: وهَذانِ القَوْلانِ جَيِّدانِ لِأنَّهُما أحْرَزا التَقْسِيمَ بـِ "أو"، ومَن جَعَلَ "الساعَةَ" و"اليَوْمَ العَقِيمَ" يَوْمَ القِيامَةِ فَقَدِ أفْسَدَ رُتْبَةَ أو، وسُمِّيَ يَوْمُ القِيامَةِ أو يَوْمُ الِاسْتِئْصالِ عَقِيمًا لِأنَّهُ لا لَيْلَةَ بَعْدَهُ ولا يَوْمَ، والأيّامُ كَأنَّها نَتائِجُ؛ لِمَجِيءِ واحِدٍ إثْرَ واحِدٍ، فَكَأنَّ آخِرَ يَوْمٍ قَدْ عَقِمْ، وهَذِهِ اسْتِعارَةٌ، وجُمْلَةُ هَذِهِ الآيَةِ تَوَعُّدٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿المُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ السابِقُ مِنهُ أنَّهُ في يَوْمِ القِيامَةِ مِن حَيْثُ لا مِلْكَ فِيهِ لِأحَدٍ، ويَجُوزُ أنْ يُرِيدَ بِهِ يَوْمَ بَدْرٍ ونَحْوَهُ مِن حَيْثُ يَنْفُذُ قَضاءُ اللهِ وحْدَهُ ويَبْطُلُ ما سِواهُ، ويَمْضِي حُكْمُهُ فِيمَن أرادَ تَعْذِيبَهُ، فَأمّا مَن تَأوَّلَهُ في يَوْمِ القِيامَةِ فاتَّسَقَ لَهُ قَوْلُهُ: ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿عَذابٌ مُهِينٌ﴾، ومَن تَأوَّلَهُ في يَوْمِ بَدْرٍ ونَحْوِهِ جَعَلَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فالَّذِينَ آمَنُوا﴾ ابْتِداءً؛ خَبَرٌ عن حالِهِمُ المُتَرَكِّبَةُ عَلى حالِهِمْ في ذَلِكَ اليَوْمِ العَقِيمِ مِنَ الإيمانِ والكُفْرِ. (p-٢٦٧)وَقَوْلَهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللهِ﴾ الآيَةُ ابْتِداءً مَعْنًى آخَرُ: وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا ماتَ بِالمَدِينَةِ عُثْمانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وأبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأسَدِ قالَ بَعْضُ الناسِ: مَن قُتِلَ مِنَ المُهاجِرِينَ أفْضَلُ مِمَّنْ ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُسَوِّيَةٌ بَيْنَهم في أنَّ اللهَ -تَبارَكَ وتَعالى- يَرْزُقُ جَمِيعَهم رِزْقًا حَسَنًا. ولَيْسَ هَذا بِقاضٍ بِتَساوِيهِمْ في الفَضْلِ، وظاهِرُ الشَرِيعَةِ أنَّ المَقْتُولَ أفْضَلُ، وقالَ بَعْضُ الناسِ: المَقْتُولُ والمَيِّتُ في سَبِيلِ اللهِ شَهِيدانِ، ولَكِنْ لِلْمَقْتُولِ مَزِيَّةُ ما أصابَهُ في ذاتِ اللهِ -تَعالى- و"الرِزْقُ الحَسَنُ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ رِزْقَ الشُهَداءِ عِنْدَ رَبِّهِمْ في البَرْزَخِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بَعْدَ يَوْمِ القِيامَةِ في الجَنَّةِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "مُدْخَلًا" بِضَمِّ المِيمِ مِن "دَخَلَ"، فَهو مَحْمُولٌ عَلى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ: فَيَدْخُلُونَ مُدْخَلًا، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "مُدْخَلًا" بِضَمِّ المِيمِ مِن "أدْخَلَ". وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن سَلْمانَ بْنِ عامِرٍ قالَ: كانَ فَضالَةُ بُرُودَسْ أمِيرًا عَلى أرْباعِ، فَخَرَجَ بِجِنازَتَيْ رَجُلَيْنِ أحَدُهُما قَتِيلٌ والآخَرُ مُتَوَفًّى، فَرَأى مَيْلَ الناسِ مَعَ جِنازَةِ القَتِيلِ، فَقالَ: أراكم أيُّها الناسُ تَمِيلُونَ مَعَ القَتِيلِ وتُفَضِّلُونَهُ، فَوالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما أُبالِي مِن أيِّ حُفْرَتَيْهِما بُعِثْتُ، اقْرَءُوا قَوْلَ اللهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هاجَرُوا في سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أو ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهِ رِزْقًا حَسَنًا﴾ إلى ﴿لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾. وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ ومَن عاقَبَ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ المَعْنى: الأمْرُ ذَلِكَ. ثُمْ أخْبَرَ -تَعالى- عَمَّنْ عاقَبَ مِنَ المُؤْمِنِينَ مَن ظَلَمَهُ مِنَ الكَفَرَةِ. (p-٢٦٨)وَوَعَدَ المَبْغِيُّ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يَنْصُرُهُ، وسَمّى الذَنْبَ في هَذِهِ الآيَةِ بِاسْمِ العُقُوبَةِ كَما تُسَمّى العُقُوبَةُ كَثِيرًا باسِمُ الذَنْبِ، وهَذا كُلُّهُ تَجَوُّزٌ واتِّساعٌ وذَكَرَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ لَقِيَهم كُفّارٌ في الشَهْرِ الحَرامِ، فَأبى المُؤْمِنُونَ مِن قِتالِهِمْ، وأبى المُشْرِكُونَ إلّا القِتالَ، فَلَمّا اقْتَتَلُوا جَدَّ المُؤْمِنُونَ ونَصَرَهُمُ اللهُ -تَعالى- فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِيهِمْ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ يُولِجُ اللَيْلَ في النَهارِ﴾ مَعْناها: نَصْرُ اللهِ -تَعالى- أولِياءَهُ ومَن بُغِيَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ القادِرُ عَلى العَظائِمْ، الَّذِي لا تُضاهى قُدْرَتُهُ، فَأوجَزَ العِبارَةَ بِأنْ أشارَ بِـ"ذَلِكَ" إلى النَصْرِ، وعَبَّرَ عَنِ القُدْرَةِ بِتَفْصِيلِها، فَذَكَرَ مِنها مَثَلًا لا يُدَّعى لِغَيْرِ اللهِ -تَعالى- وجَعَلَ تَقْصِيرَ اللَيْلِ وزِيادَةَ النَهارِ وعَكْسَها إيلاجًا تَجَوُّزًا وتَشْبِيهًا. وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ هو الحَقُّ﴾ مَعْناهُ نَحْوَ ما ذَكَرْناهُ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "تَدْعُونَ" بِالتاءِ مِن فَوْقِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يَدْعُونَ"، والإشارَةُ بِما يُدْعى مِن دُونِهِ، قالَتْ فِرْقَةٌ: هي إلى الشَيْطانِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هي إلى الأصْنامِ، والعُمُومُ هُنا حَسَنٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب