الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ذَلِكَ ومَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإنَّها مِن تَقْوى القُلُوبِ﴾ ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ إلى أجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ فَإلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَلَهُ أسْلِمُوا وبَشِّرِ المُخْبِتِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم والصابِرِينَ عَلى ما أصابَهم والمُقِيمِي الصَلاةِ ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفِقُونَ﴾ التَقْدِيرُ في هَذا المَوْضِعِ: الأمْرُ ذَلِكَ. و"الشَعائِرُ" جَمْعُ شَعِيرَةٍ، وهي كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعالى فِيهِ أمْرٌ أشْعَرَ بِهِ وأعْلَمَ، قالَتْ فِرْقَةٌ: قَصَدَ بِالشَعائِرِ في هَذِهِ الآيَةِ الهَدْيِ والأنْعامَ المُشْعِرَةَ، ومَعْنى "تَعْظِيمِها" التَسْمِينِ والِاهْتِبالَ بِأمْرِها والمُغالاةِ بِها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وجَماعَةُ. وعَوْدُ الضَمِيرِ في "فَإنَّها" عَلى التَعْظِمَةِ والفَعْلَةِ الَّتِي تَضَمَّنَها الكَلامُ، وقُرِئَ "القُلُوبُ" بِالرَفْعِ عَلى أنَّها فاعِلَةٌ بِالمَصْدَرِ الَّذِي هو "تَقْوى"، ثُمُ اخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَكم فِيها مَنافِعُ﴾ الآيَةُ، فَقالَ مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: أرادَ أنَّ لِلنّاسِ في أنْعامِهِمْ مَنافِعَ مِنَ الصُوفِ واللَبَنِ وغَيْرِ ذَلِكَ ما لَمْ يَبْعَثْها رَبُّها هَدْيًا، فَإذا بَعَثَها فَهو "الأجَلُ المُسَمّى"، وقالَ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ: أرادَ: لَكم في الهَدْيِ المَبْعُوثِ مَنافِعُ مِنَ الرُكُوبِ والِاحْتِلابِ لِمَنِ اضْطُرَّ، و"الأجَلُ المُسَمّى": نَحْرُها، وتَكُونُ "ثُمْ" لِتَرْتِيبِ الجُمَلِ، لِأنَّ "المَحَلَّ" قَبْلَ "الأجَلِ"، ومَعْنى الكَلامِ عِنْدَ هاتَيْنِ الفِرْقَتَيْنِ: ثُمْ مَحِلُّها إلى مَوْضِعِ النَحْرِ، فَذِكْرُ البَيْتِ لِأنَّهُ أشْرَفُ الحُرُمْ وهو المَقْصُودُ بِالهَدْيِ وغَيْرِهِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، وابْنُ عُمَرَ، والحُسْنُ: تِلْكَ الشَعائِرُ في هَذِهِ الآيَةِ مَواضِعُ الحَجِّ كُلُّها ومَعالِمُهُ بِمِنى وعَرَفَةَ والمُزْدَلِفَةَ والصَفا والمَرْوَةَ والبَيْتِ وغَيْرِ ذَلِكَ، وفي الآيَةِ الَّتِي تَأْتِي أنَّ البَدَنَ مِنَ الشَعائِرِ، و"المَنافِعُ": التِجارَةُ وطَلَبُ الرِزْقِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ كَسْبَ الأجْرِ والمَغْفِرَةَ، وبِكُلِّ احْتِمالٍ قالَتْ فِرْقَةٌ، و"الأجَلُ": الرُجُوعُ إلى مَكَّةَ وطَوافُ الإفاضَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "ثُمْ مَحِلُّها" مَأْخُوذٌ مِن إحْلالِ المُحَرَّمِ مَعْناهُ، ثُمْ أخَّرَ هَذا كُلَّهُ إلى طَوافِ الإفاضَةِ بِالبَيْتِ العَتِيقِ، فالبَيْتُ -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- مُرادٌ بِنَفْسِهِ، قالَهُ مالِكٌ في (المُوَطَّأِ). ثُمْ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ مَنسَكًا، أيْ مَوْضِعَ نُسُكٍ وعِبادَةٍ، ثُمْ أنَّ المَنسَكَ ظَرْفٌ كالمَذْبَحِ ونَحْوَ هَذا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ المَصْدَرَ، كَأنَّهُ قالَ: عِبادَةٌ (p-٢٤٧)وَنَحْوَها، والناسِكُ: العابِدُ، وقالَ مُجاهِدٌ: سُنَّةٌ في إراقَةِ دِماءِ الذَبائِحِ، وقَرَأ مُعْظَمُ القُرّاءِ: "مَنسَكًا" بِفَتْحِ السِينِ، وهو مِن: نَسَكَ يَنْسُكُ بِضَمِّ السِينِ في المُسْتَقْبَلِ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "مَنسِكًا" بِكَسْرِ السِينِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: الفَتْحُ أُولى؛ لِأنَّهُ إمّا المَصْدَرُ وإمّا المَكانُ وكُلاهُما مَفْتُوحٌ، والكَسْرُ في هَذا مِنَ الشاذِّ في اسْمِ المَكانِ أنْ يَكُونَ (مَفْعِلْ) مِن: فَعَلَ يَفْعَلُ، مِثْلَ مَسْجِدٌ، مِن: سَجَدَ يَسْجُدُ، ولا يَسُوغُ فِيهِ القِياسُ، ويُشْبِهُ أنَّ الكِسائِيَّ سَمِعَهُ مِنَ العَرَبِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ﴾ مَعْناهُ: أمَرْناهم عِنْدَ ذَبائِحِهِمْ بِذِكْرِ اللهِ، وأنْ يَكُونَ الذَبْحُ لَهُ لِأنَّهُ رازِقُ ذَلِكَ، ثُمْ رَجَعَ اللَفْظُ مِنَ الخَبَرِ عَنِ الأُمَمِ إلى إخْبارِ الحاضِرِينَ بِما مَعْناهُ: فالإلَهُ واحِدٌ لِجَمِيعِكُمْ، فَكَذَلِكَ الأمْرُ في الذَبِيحَةِ إنَّما يَنْبَغِي أنْ تُخْلِصَ لَهُ، و"أسْلَمُوا" مَعْناهُ: لِحَقِّهِ ولِوَجْهِهِ ولِإنْعامِهِ آمَنُوا وأسْلَمُوا، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الِاسْتِسْلامَ. ثُمْ أمَرَ تَبارَكَ وتَعالى نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يُبَشِّرَ بِشارَةً عَلى الإطْلاقِ، وهي أبْلَغُ مِنَ المُفَسِّرَةِ لِأنَّها مُرْسَلَةٌ مَعَ نِهايَةِ التَخَيُّلِ، و "المُخْبِتِينَ": المُتَواضِعِينَ الخاشِعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، و"الخَبْتُ": ما انْخَفَضَ مِنَ الأرْضِ، والمُخْبِتُ: المُتَواضِعُ الَّذِي مَشْيُهُ مَتَطامِنٌ كَأنَّهُ في حُدُورٍ مِنَ الأرْضِ، وقالَ عَمْرُو بْنِ أوسِ: المُخْبِتُونَ: الَّذِينَ لا يَظْلِمُونَ وإذا ظَلَمُوا لَمْ يَنْتَصِرُوا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مِثالٌ شَرِيفٌ مَن خُلُقِ المُؤْمِنِ الهَيِّنِ اللَيِّنِ، وقالَ مُجاهِدٌ: هُمُ المُطَمْئِنُونَ بِأمْرِ اللهِ تَعالى، ووَصَفَهم تَعالى بِالخَوْفِ والوَجِلِ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ، وتِلْكَ لِقُوَّةِ يَقِينِهِمْ ومُراعاتِهِمْ لِرَبِّهِمْ وكَأنَّهم بَيْنَ يَدَيْهِ، ووَصْفَهم تَبارَكَ وتَعالى بِالصَبْرِ والصَلاةِ وإقامَةِ الصَلاةِ وإدامَتِها، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "الصَلاةُ" بِالخَفْضِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحَقٍ، والحُسْنِ: "الصَلاةُ" بِالنَصْبِ عَلى تَوَهُّمُ النُونِ وأنَّ حَذْفَها لِلتَّخْفِيفِ، ورُوِيَتْ عن أبِي عَمْرُو، (p-٢٤٨)وَقَرَأ الأعْمَشُ: "والمُقِيمِينَ الصَلاةَ" بِالنُونِ والنُصْبِ في "الصَلاةِ"، وقَرَأ الضِحاكُ: "والمُقِيمُ الصَلاةَ"، ورُوِيَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ -قَوْلُهُ تَعالى: "وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ"- نَزَلَتْ في أبِي بَكْرٍ، وعُمَرَ، وعُثْمانَ، وعَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب