الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَماواتِ ومَن في الأرْضِ والشَمْسُ والقَمَرُ والنُجُومُ والجِبالُ والشَجَرُ والدَوابُّ وكَثِيرٌ مَن الناسِ وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ ومَن يُهِنِ اللهَ فَما لَهُ مَن مُكْرِمٍ إنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ﴾ ﴿هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ فالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهم ثِيابٌ مِن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ﴾ ﴿يُصْهَرُ بِهِ ما في بُطُونِهِمْ والجُلُودُ﴾ ﴿وَلَهم مَقامِعُ مِن حَدِيدٍ﴾ ﴿كُلَّما أرادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها مِن غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وذُوقُوا عَذابَ الحَرِيقِ﴾ "ألَمْ تَرَ" تَنْبِيهٌ، مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ، وهَذِهِ آيَةُ إعْلامٍ بِتَسْلِيمِ المَخْلُوقاتِ جَمِيعِها لِلَّهِ تَعالى وخُضُوعِها. وذَكَرَ في الآيَةِ كُلَّ ما عَبَدَ الناسُ إذْ في المَخْلُوقاتِ أعْظَمُ مِمّا ذَكَرَ كالبِحارِ والرِياحِ والهَواءِ، فَـ "مَن في السَماواتِ": المَلائِكَةُ، و"مَن في الأرْضِ" مَن عَبَدَ مِنَ البَشَرِ. و"الشَمْسُ" كانَتْ تَعْبُدُها حِمْيَرُ، وهم قَوْمُ بِلْقِيسٍ، و "القَمَرُ" كانَتْ كِنانَةُ تَعْبُدُهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: وكانَتْ تَمِيمُ تَعْبُدُ الدُبْرانِ، وكانَتْ لِخُمْ تَعْبُدُ المُشْتَرِيَ، وكانَتْ طَيُّ تَعْبُدُ الثُرَيّا، وكانَتْ قُرَيْشُ تَعْبُدُ الشِعْرَ، وكانَتْ أسَدُ (p-٢٢٦)تَعْبُدُ عُطارِدَ، وكانَتْ رَبِيعَةُ تَعْبُدُ المُرْزِمْ، و"الجِبالُ والشَجَرُ" مِنها النارُ وأصْنامُ الحِجارَةِ والخَشَبُ، و"الدَوابُّ" فِيها البَقَرُ وغَيْرُ ذَلِكَ مِمّا عَبَدَ مِنَ الحَيَوانِ كالدِيكِ ونَحْوِهِ. و "السُجُودُ" في هَذِهِ الآيَةِ هو بِالخُضُوعِ والِانْقِيادِ لِلْأمْرِ، وهَذا كَما قالَ الشاعِرُ: ؎ ............................ تَرى الأكَمَّ فِيها سُجَّدًا لِلْحَوافِرِ وهَذا مِمّا يَتَعَذَّرُ فِيهِ السُجُودُ المُتَعارَفُ. وقالَ مُجاهِدٌ: سُجُودُ هَذِهِ الأشْياءِ هو بُطْلانُها، وقالَ بَعْضُهُمْ: سُجُودُها هو بِظُهُورِ الصَنْعَةِ فِيها. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا وهْمٌ، وإنَّما خَلَطَ هَذِهِ الآيَةَ بِآيَةِ التَسْبِيحِ، وهُنالِكَ يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: هي بِآثارِ الصَنْعَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ما تَقَدَّمَ، أيْ: وكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ سَجْدًا، أيْ كَراهِيَةً وعَلى رُغْمِهِ، إمّا بِخُضُوعِهِ عِنْدَ المَكارِهِ ونَحْوَ ذَلِكَ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقالَ: سُجُودُهُ بِظِلِّهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ رَفْعًا بِالِابْتِداءِ مَقْطُوعًا مِمّا قَبْلَهُ، وكَأنَّ الجُمْلَةَ مُعادَلَةٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ الناسِ﴾ لِأنَّ المَعْنى أنَّهم مَرْحُومُونَ بِسُجُودِهِمْ، ويُؤَيِّدُ هَذا قَوْلُهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وَمَن يُهِنِ اللهُ﴾ الآيَةُ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فَما لَهُ مِن مُكْرِمْ" بِكَسْرِ الراءِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِ الراءِ عَلى مَعْنى: مِن مَوْضِعٍ، أو عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ كَمَدْخَلٍ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "والدَوابُّ" مُشَدَّدَةَ الباءِ، وقَرَأ الزَهْرِيُّ وحْدَهُ بِتَخْفِيفِ الباءِ، وهي قَلِيلَةٌ ضَعِيفَةٌ، وهي تَخْفِيفٌ عَلى (p-٢٢٧)غَيْرِ قِياسٍ كَما قالُوا: ظَلَّتْ وأحَسَّتْ، وكَما قالَ عَلْقَمَةُ: ؎ كَأنَّ إبْرِيقَهم ظَبْيٌ عَلى شَرَفٍ ∗∗∗ مُفَدَّمٌ بِسَبا الكَتّانِ مُلْثُومُ أرادَ: بِسَبائِبَ الكَتّانِ: وأنْشَدَ أبُو عَلِيٍّ في مَثْلِهِ: ؎ حَتّى إذا ما لَمْ أجِدْ غَيْرَ الشَرِّ ∗∗∗ كُنْتُ امْرِءًا مِن مالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ وهَذا بابٌ إنَّما يُسْتَعْمَلُ في الشِعْرِ فَلِذَلِكَ ضَعُفَتْ هَذِهِ القِراءَةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا في رَبِّهِمْ﴾ الآيَةُ. اخْتَلَفَ الناسُ في المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: "هَذانِ" فَقالَ قَيْسُ بْنُ عُبادَةَ، وهِلالُ بْنُ يُسافٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في المُتَبارِزِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وهم سِتَّةٌ: حَمْزَةُ، وعَلَيٌّ، وعُبَيْدَةُ بْنُ الحارِثِ، بَرَزُوا لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، والوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ (p-٢٢٨)تَعالى عنهُ أنَّهُ قالَ: أنا أوَّلُ مَن يَجْثُو لِلْخُصُومَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ يَوْمَ القِيامَةِ، وأقْسَمَ أبُو ذَرٌّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَلى هَذا القَوْلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ووَقْعَ أنَّ الآيَةَ فِيهِمْ في صَحِيحِ البُخارِيِّ رَحِمَهُ اللهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الإشارَةُ إلى المُؤْمِنِينَ وأهْلِ الكِتابِ، وذَلِكَ أنَّهُ وقَعَ بَيْنَهم تَخاصُمْ، فَقالَتِ اليَهُودُ: نَحْنُ أقْدَمُ دِينًا مِنكم ونَحْوَ هَذا، فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وقالَ عِكْرِمَةُ: المُخاصَمَةُ بَيْنَ الجَنَّةِ والنارِ، وقالَ مُجاهِدٌ، وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ، والحُسْنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، وعاصِمْ، والكَلْبِيُ: الإشارَةُ إلى المُؤْمِنِينَ والكُفّارِ عَلى العُمُومِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا قَوْلٌ تُعَضِّدُهُ الآيَةُ، وذَلِكَ أنَّهُ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿وَكَثِيرٌ مِنَ الناسِ﴾، المَعْنى: فَهم مُؤْمِنُونَ ساجِدُونَ، ثُمْ قالَ: ﴿وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ﴾، ثُمْ أشارَ إلى هَذَيْنَ الصِنْفَيْنِ بِقَوْلِهِ: ﴿هَذانِ خَصْمانِ﴾، والمَعْنى أنَّ الإيمانَ وأهْلَهُ والكُفْرَ وأهْلَهُ خَصْمانِ مُذْ كانا إلى قِيامِ الساعَةِ بِالعَداوَةِ والجِدالِ والحَرْبِ. وقَوْلُهُ: "خَصْمانِ" يُرِيدُ: طائِفَتَيْنِ؛ لِأنَّ لَفْظَةَ خَصْمٍ هي مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ الجَمْعُ والواحِدُ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ أرادَ الجَمْعَ قَوْلُهُ تَعالى: "اخْتَصَمُوا"، فَإنَّها قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "اخْتَصَما في رَبِّهِمْ". وقَوْلُهُ: "فِي رَبِّهِمْ" مَعْناهُ: في شَأْنِ رَبِّهِمْ وصِفاتِهِ وتَوْحِيدِهِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: في رِضى رَبِّهِمْ، وفي ذاتِهِ. ثُمْ بَيَّنَ حُكْمَ الفَرِيقَيْنِ، فَتَوَعَّدَ تَبارَكَ وتَعالى الكَفّارَ بِعَذابِ جَهَنَّمَ، و "قُطِّعَتْ" مَعْناهُ: جُعِلَتْ لَهم بِتَقْدِيرٍ كَما يُفَصَّلُ الثَوْبُ، ورُوِيَ أنَّها مِن نُحاسٍ، وقِيلَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الحِجارَةِ أحَرَّ مِنهُ إذا حَمِيَ. ورُوِيَ في صَبِّ الحَمِيمِ - وهو الماءُ المَغْلِيُّ- أنَّهُ تُضْرَبُ رُؤُوسُهم بِالمَقامِعِ فَتَنْكَشِفُ أدْمِغَتُهم فَيُصَبُّ الحَمِيمُ حِينَئِذٍ، وقِيلَ: بَلْ يُصَبُّ الحَمِيمُ أوَّلًا فَيَفْعَلُ ما وُصِفَ ثُمْ تُضْرَبُ بِالمَقامِعِ بَعْدَ ذَلِكَ. و "الحَمِيمُ" الماءُ المَغْلِيُّ، و "يُصْهَرُ" مَعْناهُ: يُذابُ، وقِيلَ: مَعْناهُ: يُعْصَرُ، وهَذِهِ العِبارَةُ قَلِقَةٌ، وقِيلَ: مَعْناهُ: يَنْضَجُ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:(p-٢٢٩) ؎ ................. ∗∗∗ تَصْهَرُهُ الشَمْسُ ولا يَنْصَهِرُ وإنَّما يُشْبِهُ -فِيمَن قالَ: يُعْصَرُ- أنَّهُ أرادَ الحَمِيمَ يَهْبِطُ -كُلَّما يُلْقى- في الجَوْفِ ويَكْشِطُهُ ويَسْلِتُهُ، وقَدْ رَوى أبُو هُرَيْرَةَ نَحْوَهُ عَنِ النَبِيِّ ﷺ «أنَّهُ يَسْلِتُهُ ويَبْلُغُ بِهِ قَدَمَيْهِ ويُذِيبُهُ، ثُمْ يُعادُ كَما كانَ». وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يَصْهَرُ"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يُصَهَّرُ" بِفَتْحِ الصادِ وشَدِّ الهاءِ، و"المِقْمَعَةُ" -بِكَسْرِ المِيمِ- مِقْرَعَةٌ مِن حَدِيدٍ يُقْمَعُ بِها المَضْرُوبُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "أرادُوا" رُوِيَ فِيهِ أنَّ لَهَبَ النارِ إذا ارْتَفَعَ رَفَعَهم فَيَصِلُونَ إلى أبْوابِ النارِ فَيُرِيدُونَ الخُرُوجَ فَيُضْرَبُونَ بِالمَقامِعِ وتَرُدُّهُمُ الزَبانِيَةُ. و "مِن" في قَوْلِهِ: "مِنها" لِابْتِداءِ الغايَةِ، وفي قَوْلِهِ: "مِن غَمٍّ" يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِبَيانِ الجِنْسِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ لِابْتِداءِ غايَةٍ أيْضًا، وهي بَدَلٌ مِنَ الأُولى، وقَوْلُهُ: "وَذُوقُوا" هُنا حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: ويُقالُ لَهُمْ: ذُوقُوا، و"الحَرِيقِ" فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفْعِلٍ أيْ: مُحْرِقٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "هَذانِ" بِتَخْفِيفِ النُونِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ: "هَذانِّ" (p-٢٣٠)بِتَشْدِيدِ النُونِ، وقَرَأها شِبْلٌ، وهي لُغَةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ في المُبْهَماتِ كاللذانِ وهَذانِ، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أبُو عَلِيٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب