الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿إنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ إنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ﴾ ﴿مَن كانَ يَظُنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ في الدُنْيا والآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَماءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ﴾ ﴿وَكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وأنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ﴾ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصابِئِينَ والنَصارى والمَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا إنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ لَمّا ذَكَرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ وسَفَّهَ رَأْيَهم وتَوَعَّدَهم بِخَسارَةِ (p-٢٢٢)الآخِرَةِ، عَقِبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مُخالِفِيهِمْ مِن أهْلِ الإيمانِ، وذَكَرَ ما وعَدَهم بِهِ مِن إدْخالِهِ إيّاهُمُ الجَنَّةَ، ثُمْ أخَذَتِ الآيَةُ في تَوْبِيخِ أُولَئِكَ الأوَّلِينَ وإسْلامِهِمْ إلى رَأْيِهِمْ وإحالَتِهِمْ عَلى ما فِيهِ عَنَتُهم ولَيْسَ فِيهِ راحَتُهُمْ، كَأنَّهُ يَقُولُ: هَؤُلاءِ العابِدُونَ عَلى حَرْفٍ صَحِبَهُمُ القَلَقُ وظَنُّوا أنَّ اللهَ تَعالى لَنْ يَنْصُرَ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ وأتْباعَهُ، ونَحْنُ إنَّما أمَرْناهم بِالصَبْرِ وانْتِظارِ وعْدِنا، فَمِن ظَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ولْيَخْتَنِقْ ولْيَنْظُرْ هَلْ يَذْهَبُ بِذَلِكَ غَيْظُهُ؟ قالَ هَذا المَعْنى قَتادَةُ، وهَذا عَلى جِهَةِ المَثَلِ السائِرِ، قَوْلُهُمْ: دُونَكَ الحَبْلُ فاخْتَنِقْ، يُقالُ ذَلِكَ لِلَّذِي يُرِيدُ مِنَ الأمْرِ ما لا يُمْكِنُهُ. و "السَبَبُ": الحَبْلُ، و"النَصْرُ" مَعْرُوفٌ، إلّا أنَّ أبا عُبَيْدَةَ ذَهَبَ بِهِ إلى مَعْنى الرِزْقِ، كَما قالُوا: أرْضٌ مَنصُورَةٌ أيْ مَمْطُورَةٌ، وكَما قالَ الشاعِرُ: ؎ وإنَّكَ لا تُعْطِي امْرِأً فَوْقَ حَقِّهِ ولا تَمْلِكُ الشِقَّ الَّذِي الغَيْثُ ناصِرُهُ وقالَ: وقَفَ بِنا سائِلٌ مِن بَنِي أبِي بَكْرٍ فَقالَ: مَن يَنْصُرُنِي يَنْصُرُهُ اللهُ، و"السَماءُ" -عَلى هَذِهِ الأقْوالِ-: الهَواءُ عُلُوًّا، فَكَأنَّهُ أرادَ: سَقْفًا أو شَجَرَةً أو نَحْوَهُ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَماءُ هي المَعْرُوفَةُ، وذَهَبَ إلى مَعْنًى آخَرَ، كَأنَّهُ قالَ لِمَن يَظُنُّ أنَّ اللهَ لا يَنْصُرُ مُحَمَّدًا: إنْ كُنْتَ تَظُنُّ ذَلِكَ فامْدُدْ سَبَبًا إلى السَماءِ واقْطَعْهُ إنْ كُنْتَ تَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ، فَإنْ عَجَزْتَ فَكَذَلِكَ لا تَقْدِرُ عَلى قَطْعِ سَبَبِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ مِنَ السَماءِ؛ إذْ نُصْرَتُهُ مِن هُنالِكَ، والوَحْيِ الَّذِي يَأْتِيهِ. (p-٢٢٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: و "القَطْعُ" -عَلى هَذا التَأْوِيلِ- لَيْسَ بِالِاخْتِناقِ، بَلْ هو جَزْمُ السَبَبِ، وفي مُصْحَفُ ابْنِ مَسْعُودٍ: "ثُمْ لِيَقْطَعَهُ بِها"، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ القَطْعَ هُنا هو الِاخْتِناقُ. وقالَ الخَلِيلُ: وقَطْعُ الرَجُلِ إذا اخْتَنَقَ بِحَبْلٍ أو نَحْوِهُ، ثُمْ ذَكَرَ الآيَةَ. وتَحْتَمِلُ الآيَةُ مَعْنًى آخَرَ، وهو أنْ يُرادَ بِهِ الكُفّارُ وكُلُّ مَن يَغْتاظُ بِأنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ويَطْمَعَ ألّا يُنْصَرَ، قِيلَ لَهُمْ: مَن ظَنَّ أنَّ هَذا لا يُنْصَرُ فَلْيَمُتْ كَمَدًا، هو مَنصُورٌ لا مَحالَةَ، فَلْيَخْتَنِقْ هَذا الظانُّ غَيْظًا وكَمَدًا، ويُؤَيِّدْ هَذا أنَّ الطَبَرِيَّ والنَقّاشَ قالا: ويُقالُ: نَزَلَتْ في نَفَرٍ مِن بَنِي أسَدٍ وغَطْفانَ قالُوا: نَخافُ أنْ يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ فَيَنْقَطِعُ الَّذِي بَيْنَنا وبَيْنَ حُلَفائِنا مِن يَهُودٍ مِنَ المَنافِعِ. والمَعْنى الأوَّلُ الَّذِي قِيلَ لِلْعابِدِينَ عَلى حَرْفٍ لَيْسَ بِهَذا، ولَكِنَّهُ بِمَعْنى: مَن قَلِقَ واسْتَبْطَأ النَصْرَ وظَنَّ أنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ لا يُنْصَرُ فَلْيَخْتَنِقْ سَفاهَةً إذْ تَعَدّى الأمْرَ الَّذِي حَدَّ لَهُ في الصَبْرِ وانْتِظارِ صُنْعِ اللهِ تَعالى. وقالَ مُجاهِدٌ: الضَمِيرُ في "يَنْصُرَهُ" عائِدٌ عَلى "مَن"، والمَعْنى: مَن كانَ مِنَ القَلِقِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والضَمِيرُ في التَأْوِيلِ الَّذِي ذَكَرْناهُ في أنْ يُرادَ الكُفّارُ لا يَعُودُ إلّا عَلى النَبِيِّ ﷺ فَقَطْ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى الدِينِ والقُرْآنِ. وقَرَأ أبُو عَمْرُو، وابْنُ عامِرٍ: "لِيَقْطَعْ فَلِيَنْظُرْ" بِكَسْرِ اللامِ فِيهِما عَلى الأصْلِ، وهي قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وقَرَأ عاصِمْ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِسُكُونِ اللامِ فِيهِما وفي لامِ الأمْرِ في كُلِّ القُرْآنِ مَعَ الواوِ والفاءِ و ثُمْ، واخْتَلَفَ عن نافِعٍ، وهي قِراءَةُ الحَسَنِ، وأبِي عَمْرُو، وعِيسى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: أُمًّا الفاءُ والواوُ -إذا دَخَلَتْ إحْداهُما عَلى الأمْرِ- فَحَكى سِيبَوَيْهِ أنَّهم يَرَوْنَها كَأنَّها مِنَ الكَلِمَةِ فَسُكُونُ اللامِ تَخْفِيفٌ، وهو أفْصَحُ مِن تَحْرِيكِها، وأمّا "ثُمْ" فَهي كَلِمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فالوَجْهُ تَحْرِيكِ اللامِ بَعْدَها. (p-٢٢٤)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ رَأى بَعْضُ النَحْوِيِّينَ المِيمَ مِن "ثُمْ" بِمَنزِلَةِ الواوِ والفاءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "ما يَغِيظُ" يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ "ما" بِمَعْنى الَّذِي، وفي "يَغِيظُ" عائِدٌ عَلَيْها، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً حَرْفًا فَلا عائِدَ عَلَيْها، و "الكَيْدُ" هو مَدُّهُ السَبَبَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وأبْيَنُ وُجُوهِ هَذِهِ الآيَةِ أنْ تَكُونَ مَثَلًا، ويَكُونُ النَصْرُ المَعْرُوفَ، والقَطْعُ الِاخْتِناقَ، والسَماءُ الِارْتِفاعَ في الهَواءِ بِسَقْفٍ أو شَجَرَةٍ أو نَحْوِهِ فَتَأْمُلُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ إلى ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾، المَعْنى: وكَما وعَدْنا بِالنَصْرِ وأمَرْنا بِالصَبْرِ كَذَلِكَ، أنْزَلْنا القُرْآنَ آيَةً بَيِّنَةً لِمَن نَظَرَ واهْتَدى، لا لِيَقْتَرِحَ مَعَها ويَسْتَعْجِلَ القَدَرَ، وقالَ الطَبَرِيُّ: المَعْنى: وكَما بَيَّنْتُ حُجَّتِي عَلى مَن جَحَدَ قُدْرَتِي عَلى إحْياءِ المَوْتى كَذَلِكَ أنْزَلْناهُ. والضَمِيرُ في "أنْزَلْناهُ" عائِدٌ عَلى القُرْآنِ، وجاءَتْ هَذِهِ الضَمائِرُ هَكَذا وإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِشُهْرَةِ المُشاِرِ إلَيْهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢] وغَيْرِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "وَأنَّ اللهَ" في مَوْضِعِ خَبَرِ الِابْتِداءِ، والتَقْدِيرُ: والأمْرُ أنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ، وهِدايَةُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى هي خَلْقِهِ الرَشادُ والإيمانُ في نَفْسِ الإنْسانِ. ثُمْ أخْبَرَ اللهُ تَعالى عن فِعْلِهِ بِالفِرَقِ المَذْكُورِينَ وهُمُ المُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ ﷺ وغَيْرِهِ، واليَهُودُ، والصابِئُونَ. وهم قَوْمٌ يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ ويَسْتَقْبِلُونَ القِبْلَةَ ويُوَحِّدُونَ اللهَ ويَقْرَؤُونَ الزَبُورَ، قالَهُ قَتادَةُ. والنَصارى والمَجُوسُ وهم عَبَدَةُ النارِ والشَمْسِ والقَمَرِ. والمُشْرِكُونَ وهم عَبَدَةُ الأوثانِ. قالَ قَتادَةُ: الأدْيانُ سِتَّةٌ، خَمْسَةٌ لِلشَّيْطانِ وواحِدٌ لِلرَّحْمَنِ. وخَبَرُ "إنَّ" قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ﴾، ثُمْ دَخَلَتْ "إنَّ" عَلى الخَبَرِ مُؤَكِّدَةً، وحَسَنُ ذَلِكَ لِطُولِ الكَلامِ فَهي وما بَعْدَها خَبَرُ "إنَّ" الأولى، وقَرَنَ الزَجاجُ هَذِهِ الآيَةَ بِقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ اللهَ سَرْبَلَهُ ∗∗∗ سِرْبالَ مَلِكٍ بِهِ تُرْجى الخَواتِيمُ (p-٢٢٥)نَقَلَهُ الطَبَرِيُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَيْسَ هَذا البَيْتُ كالآيَةِ؛ لِأنَّ الخَبَرَ في البَيْتِ في قَوْلِهِ: "بِهِ تُرْجى الخَواتِيمُ"، و "إنَّ" الثانِيَةُ وجُمْلَتُها مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الكَلامَيْنِ. ثُمْ تَمَّ الكَلامُ كُلُّهُ في قَوْلِهِ تَعالى: "القِيامَةِ"، واسْتَأْنَفَ الخَبَرَ عن إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعالِمْ بِهِ، وهَذا خَبَرٌ مُناسِبٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الفِرَقِ، وفَصْلُ اللهِ تَعالى بَيْنَ هَذِهِ الفِرَقِ هو بِإدْخالِ المُؤْمِنِينَ الجَنَّةَ والكافِرِينَ النارَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب