الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿حَتّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ وهم مِن كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ ﴿واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإذا هي شاخِصَةٌ أبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا ويْلَنا قَدْ كُنّا في غَفْلَةٍ مِن هَذا بَلْ كُنّا ظالِمِينَ﴾ تَحْتَمِلُ "حَتّى" - في هَذِهِ الآيَةِ - أنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: "وَتَقَطَّعُوا"، وتَحْتَمِلُ - عَلى بَعْضِ التَأْوِيلاتِ المُتَقَدِّمَةِ - أنْ تَتَعَلَّقَ بِـ "يُرْجَعُونَ"، وتَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ حَرْفَ ابْتِداءٍ: وهو الأظْهَرُ بِسَبَبِ "إذا"؛ لِأنَّها تَقْتَضِي جَوابًا وهو المَقْصُودُ ذِكْرُهُ. واخْتُلِفَ هُنا في الجَوابِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: الجَوابُ قَوْلُهُ: " اقترب الوعد " والواوُ زائِدَةٌ، وقالَتْ فِرْقَةٌ - مِنها الزَجّاجُ وغَيْرُهُ: الجَوابُ في قَوْلِهِ تَعالى: "يا ويْلَنا"، التَقْدِيرُ: قالُوا يا ويْلَنا، ولَيْسَتِ الواوُ بِزائِدَةٍ، والَّذِي أقُولُ: إنَّ الجَوابَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا هي شاخِصَةٌ﴾، وهَذا هو المَعْنى الَّذِي قُصِدَ ذِكْرُهُ لِأنَّهُ رُجُوعُهُمُ الَّذِي كانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ وحُرِّمْ عَلَيْهِمُ امْتِناعُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فُتِحَتْ" بِتَخْفِيفِ التاءِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ: "فُتِّحَتْ" بِتَثْقِيلِها. ورُوِيَ أنْ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ يُشْرِفُونَ في كُلِّ يَوْمٍ عَلى الفَتْحِ فُيَقُولُونَ: غَدًا يُفْتَحُ، ولا يَرُدُّونَ المَشِيئَةَ إلى اللهِ تَعالى، فَإذا كانَ الغَدُ وجَدُوا الرَدْمَ كَأوَّلِهِ، حَتّى إذا أذِنَ اللهُ في فَتْحِهِ قالَ قائِلُهُمْ: غَدًا نَفْتَحُهُ إنْ شاءَ اللهُ، فَيَجِدُونَهُ كَما تَرَكُوهُ قَرِيبَ الِانْفِتاحِ فَيَفْتَحُونَهُ حِينَئِذٍ. وقَرَأ عاصِمْ وحْدَهُ: " يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ " بِالهَمْزَةِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِالتَسْهِيلِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الكَهْفِ تَوْجِيهُ ذَلِكَ وكَثِيرٌ مِن حِالِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ فَغَنَيْناها هُنا عن إعادَةِ ذَلِكَ. و"الحَدَبُ" كُلُّ مُسَنَّمٍ مِنَ الأرْضِ كالجَبَلِ والظَرِبِ والكُدْيَةِ والقَبْرِ ونَحْوِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِقَوْلِهِ: "وُهُمْ" يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ، يَعْنِي أنَّهم يَطْلُعُونَ مِن كُلِّ ثَنِيَّةٍ ومُرْتَفَعٍ ويَعُمُّونَ الأرْضَ، وذَلِكَ أنَّهم مِنَ الكَثْرَةِ بِحَيْثُ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَقُولُ اللهُ تَعالى يَوْمَ القِيامَةِ: يا آدَمُ أخْرِجْ بَعْثَ النارِ مِن ذُرِيَّتِكَ، فَيُخْرِجُ مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ قالَ: فَفَزِعَ الناسُ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: "إنَّ مِنكم رَجُلًا ومِن يَأْجُوجَ (p-٢٠٢)وَمَأْجُوجَ ألْفُ رَجُلٍ»، ويُرْوى أنَّ الرَجُلَ مِنهم لا يَمُوتُ حَتّى يُوَلَدَ لَهُ ألْفُ ولَدٍ بَيْنَ رَجُلٍ وامْرَأةٍ. وقالَتِ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِقَوْلِهِ: "وُهُمْ" جَمِيعُ العالَمِ، وإنَّما هو تَعْرِيفٌ بِالبَعْثِ مِنَ القُبُورِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "مِن كُلُّ جَدَثٍ"، وهَذِهِ القِراءَةُ تُؤَيِّدُ هَذا التَأْوِيلَ. و"يَنْسِلُونَ" مَعْناهُ: يُسْرِعُونَ في تَطامُنٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ عَسَلانُ الذِئْبِ أمْسى قارِبًا بَرْدَ اللَيْلُ عَلَيْهِ فَنَسَلْ وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِكَسْرِ السِينِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ بِضَمِّها. وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ عن أبِي سَعِيدٍ قالَ: يَخْرُجُ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ فَلا يَتْرُكُونَ أحَدًا إلّا قَتَلُوهُ إلّا أهْلَ الحُصُونِ، فَيَمُرُّونَ عَلى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةِ، فُيَمُرُّ آخِرُهم فَيَقُولُ: كانَ ها هُنا ماءٌ، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَغَفَ حَتّى يَكْسَرَ أعْناقَهُمْ، فَيَقُولُ أهْلُ الحُصُونِ: لَقَدْ هَلَكَ أعْداءُ اللهِ، فَيُدْلُونَ رَجُلًا يَنْظُرُ فَيَجِدُهم قَدْ هَلَكُوا، قالَ: فَيُنْزِلُ اللهُ ماءً مِنَ السَماءِ فَيَقْذِفُ بِهِمْ في البَحْرِ فَيُطَهِّرُ الأرْضَ مِنهم، وفي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ نَحْوُ هَذا، وفي آخِرِهِ قالَ: وعِنْدَ ذَلِكَ طُلُوعُ الشَمْسِ مِن مَغْرِبِها ورُوِيَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما (p-٢٠٣)رَأى صِبْيانًا يَلْعَبُونَ ويَنْزُو بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ فَقالَ: هَكَذا خُرُوجُ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ﴾ يُرِيدُ يَوْمَ القِيامَةِ، ورُوِيَ في الحَدِيثِ «إنَّ الرَجُلَ لَيَتَّخِذُ الفَلُوَّ مِن بَعْدِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ فَلا يَبْلُغُ مَنفَعَتَهُ حَتّى تَقُومَ الساعَةُ»، وقَوْلُهُ: "هِيَ" مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّها ضَمِيرُ القِصَّةِ، كَأنَّهُ قالَ: فَإذا القِصَّةُ أوِ الحادِثَةُ شاخِصَةٌ أبْصارُ، وجَوَّزَ الفَرّاءُ أنْ تَكُونَ ضَمِيرَ "الأبْصارِ" تَقَدَّمَتْ لِدِلالَةِ الكَلامِ، ويَجِيءُ ما يُفَسِّرُها، وأنْشَدَ عَلى ذَلِكَ: ؎ فَلا وأبِيها لا تَقُولُ خَلِيلَتِي ∗∗∗ ألا فَرَّ عَنِّي مالِكُ بْنُ أبِي كَعْبِ والشُخُوصُ بِالعَيْنِ: إحْدادُ النَظَرِ دُونَ أنْ يَطْرِفَ، وذَلِكَ يَعْتَرِي مِنَ الخَوْفِ المُفْرِطِ أو عِلَّةٍ أو نَحْوِهِ. وقَوْلُهُ: "يا ويْلَنا" تَقْدِيرُهُ: يا ويْلَنا لَقَدْ كانَتْ بِنا غَفْلَةٌ عَمّا وجَدْنا الآنَ وتَبَيَّنّا مِنَ الحَقائِقِ، ثُمْ تَرَكُوا الكَلامَ الأوَّلَ ورَجَعُوا إلى نَقْدِ ما كانَ يُداخِلُهم مِن تَعَمُّدِ الكُفْرِ وقَصْدِ الإعْراضِ فَقالُوا:، ﴿بَلْ كُنّا ظالِمِينَ﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب