الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَمِنَ الشَياطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ ويَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وكُنّا لَهم حافِظِينَ﴾ ﴿وَأيُّوبَ إذْ نادى رَبَّهُ أنِّي مَسَّنِيَ الضُرُّ وأنْتَ أرْحَمُ الراحِمِينَ﴾ ﴿فاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِن ضُرٍّ وآتَيْناهُ أهْلَهُ ومِثْلَهم مَعَهم رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وذِكْرى لِلْعابِدِينَ﴾
يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "يَغُوصُونَ لَهُ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى مَعْنى: وسَخَّرْنا مِنَ الشَياطِينِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ، ويَتَناسَبُ هَذا مَعَ القِراءَتَيْنِ المُتَقَدِّمَتَيْنِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: "وَلِسُلَيْمانَ الرِيحَ" بِالنَصْبِ والرَفْعِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "يَغُوصُونَ" جَمْعٌ عَلى مَعْنى "مِن" لا عَلى لَفْظِها، و"الغَوْصُ": الدُخُولُ في الماءِ والأرْضِ، والعَمَلُ دُونَ ذَلِكَ البُنْيانِ وغَيْرِهِ مِنَ الصَنائِعِ والخِدْمَةِ ونَحْوِهُ، وقَوْلُهُ: ﴿وَكُنّا لَهم حافِظِينَ﴾، قِيلَ: مَعْناهُ: مِن إفْسادِهِمْ ما صَنَعُوهُ، فَإنَّهم كانَ لَهُ حِرْصٌ عَلى ذَلِكَ لَوْلا ما حالَ اللهُ تَعالى بَيْنَهم وبَيْنَ ذَلِكَ، وقِيلَ: مَعْناهُ: عادِلِينَ وحاضِرِينَ، أيْ لا يَشِذُّ عن عِلْمِنا وتَسْخِيرِنا أحَدٌ مِنهم.
وقَوْلُهُ تَعالى: " وأيُّوبَ "، أحْسَنُ ما فِيهِ النَصْبُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: واذْكُرْ أيُّوبَ، وفي قَصَصِ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَلامُ طُولٌ واخْتِلافٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وتَلْخِيصُ ذَلِكَ أنَّهُ (p-١٩١)رُوِيَ أنَّ أيُّوبَ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ كانَ نَبِيًّا مَبْعُوثًا إلى قَوْمٍ، وكانَ كَثِيرَ المالِ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ، وكانَ صاحِبَ البَثَنِيَّةِ مِن أرْضِ الشامِ، فَغَبَرَ كَذَلِكَ مُدَّةً، ثُمْ إنَّ اللهَ تُبارِكُ وتَعالى لَمّا أرادَ مِحْنَتَهُ وابْتِلاهُ أذِنَ لِإبْلِيسَ في أنْ يُفْسِدَ مالَهُ، فاسْتَعانَ بِذُرِّيَّتِهِ فَأحْرَقُوا مالَهُ ونِعَمَهُ أجْمَعَ، فَكانَ كُلَّما أُخْبِرَ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ حَمِدَ اللهَ تَعالى وقالَ: هي عارِيَةٌ اسْتَرَدَّها صاحِبُها والمُنْعِمْ بِها، فَلَمّا رَأى إبْلِيسُ ذَلِكَ جاءَ فَأخْبَرَ بِعَجْزِهِ عنهُ، فَأذِنَ اللهُ لَهُ في إهْلاكِ بَنِيهِ وقَرابَتِهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ أجْمَعَ فَدامَ أيُّوبُ عَلَيْهِ السَلامُ عَلى شُكْرِهِ، فَأخْبَرَهُ إبْلِيسُ بِعَجْزِهِ، فَأذِنَ اللهُ تَعالى لَهُ في إصابَتِهِ في بَدَنِهِ، وحَجَرَ عَلَيْهِ لِسانَهُ وعَيْنَيْهِ وقَلْبَهُ، فَجاءَ إبْلِيسُ وهو ساجِدٌ فَنَفَخَ في أنْفِهِ نَفْخَةً احْتَرَقَ بَدَنُهُ مِنها، وجَعَلَها اللهُ أكَلَةً في بَدَنِهِ، فَلَمّا عَظُمَتْ وتَقْطَّعَ أخْرَجَهُ الناسُ مِن بَيْنِهِمْ وجَعَلُوهُ عَلى سُباطَةٍ، ولَمْ يَبْقَ مَعَهُ بَشَرٌ حاشا زَوْجَتِهِ، ويُقالُ: كانَتْ بِنْتَ يُوسُفَ الصَدِيقِ، وقِيلَ: اسْمُها رَحْمَةٌ، وقِيلَ في أيُّوبَ: إنَّهُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، وقِيلَ: إنَّهُ مِنَ الرُومِ مِن ذُرِّيَّةِ عِيصُو، فَكانَتْ زَوْجَتُهُ تَسْعى عَلَيْهِ وتَأْتِيهِ يَأْكُلُ وتَقُومُ عَلَيْهِ، فَدامَ في هَذا العَذابِ مُدَّةً طَوِيلَةً، قِيلَ: ثَلاثِينَ سَنَةً، وقِيلَ: ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، وقِيلَ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وقِيلَ: تِسْعَةُ أعْوامٍ، وقِيلَ: ثَلاثَةٌ، وهو في كُلِّ ذَلِكَ صابِرٌ شاكِرٌ حَتّى جاءَهُ - فِيما رُوِيَ - ثَلاثَةٌ مِمَّنْ كانَ آمَنَ بِهِ فَوَقَرُوهُ بِالقَوْلِ وأنَّبُوهُ ونَجَهُوهُ وقالُوا: ما صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ هَذا إلّا لِخُبْثِ باطِنِهِ فِيكَ، فَراجَعَهم أيُّوبُ في آخِرِ قَوْلِهِمْ بِكَلامٍ مُقْتَضاهُ أنَّهُ ذَلِيلٌ لا يَقْدِرُ عَلى إقامَةِ حُجَّةٍ ولا بَيانِ ظُلامَةٍ، فَخاطَبَهُ اللهُ تَعالى مُعاتِبًا عَلى هَذِهِ المَقالَةِ ومُبِينًا أنَّهُ لا حُجَّةَ لِأحَدٍ مَعَ اللهِ، ولا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ، ثُمْ عَرَّفَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى بِأنَّهُ قَدْ أذِنَ في صَلاحِ حالِهِ، وعادَ عَلَيْهِ بِفَضْلِهِ، فَدَعا أيُّوبُ عَلَيْهِ السَلامُ عِنْدَ ذَلِكَ فاسْتُجِيبَ لَهُ.
ويُرْوى أنَّ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَلامُ لَمْ يَزَلْ صابِرًا لا يَدْعُو في كَشْفِ ما بِهِ، وكانَ - فِيما رُوِيَ - تَقَعُ مِنهُ الدُودُ فَيَرُدُّها بِيَدِهِ حَتّى مَرَّ بِهِ قَوْمٌ كانُوا يُعادُونَهُ فَشَمِتُوا بِهِ فَتَألَّمَ لِذَلِكَ ودَعا حِينَئِذٍ فاسْتُجِيبَ لَهُ، وكانَتِ امْرَأتُهُ غائِبَةً عنهُ في بَعْضِ شَأْنِها فَأنْبَعَ اللهُ لَهُ عَيْنًا وأمْرَ بِالشُرْبِ مِنها فَبَرِئَ باطِنُهُ، وأُمِرَ بِالِاغْتِسالِ فَبَرِئَ ظاهِرُهُ ورُدَّ إلى أفْضَلِ حالهِ، وأُتِيَ (p-١٩٢)بِأحْسَنِ الثِيابِ، وهَبَّ عَلَيْهِ رِجْلٌ مِن جَرادٍ مِن ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنها في ثَوْبِهِ، فَناداهُ اللهُ تَعالى: يا أيُّوبُ ألَمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عن هَذا؟ قالَ: بَلى يا رَبِّ ولَكِنْ لا غِنى لِي عن بَرَكَتِكَ، فَبَيْنَما هو كَذَلِكَ إذْ جاءَتِ امْرَأتُهُ فَلَمْ تَرَهُ عَلى السُباطَةِ فَجَزِعَتْ وظَنَّتْ أنَّهُ أُزِيلَ عنها وجَعَلَتْ تَتَوَلَّهُ. فَقالَ لَها: ما شَأْنُكِ أيَّتُها المَرْأةُ؟ فَهابَتْهُ لِحُسْنِ هَيْئَتِهِ، فَقالَتْ: إنِّي فَقَدْتُ مَرِيضًا كانَ لِي في هَذا المَوْضِعِ، ومَعالِمُ المَكانِ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وتَأمَّلَتْهُ في أثْناءِ المُقاوَلَةِ فَرَأتْ أيُّوبَ، فَقالَتْ لَهُ: أنْتَ أيُّوبُ ؟ فَقالَ لَها: نَعِمْ، فاعْتَنَقَها وبَكى، فَرُوِيَ أنَّهُ لَمْ يُفارِقْها حَتّى أراهُ اللهُ جَمِيعَ مالِهِ حاضِرًا بَيْنَ يَدَيْهِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في أهْلِهِ ووَلَدَهُ الَّذِينَ آتاهُ اللهُ، فَقِيلَ: كانَ ذَلِكَ كُلُّهُ في الدُنْيا، فَرَدَّ اللهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ ووَلَدَهُ بِأعْيانِهِمْ، وجَعَلَ مِثْلَهم لَهُ عِدَّةً في الآخِرَةِ، وقِيلَ: بَلْ أُوُتِيَ جَمِيعَ ذَلِكَ في الدُنْيا مِن أهْلٍ ومالٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ﴾ أيْ: وتَذْكِرَةً ومَوْعِظَةً، ولا يَعْبُدُ اللهَ إلّا مُؤْمِنٌ، والذِكْرى إنَّما هي في مِحْنَتِهِ، والرَحْمَةُ في زَوالِ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿أنِّي مَسَّنِيَ الضُرُّ﴾ تَقْدِيرُهُ: بِأنِّي مَسَّنِي، فَحُذِفَ الجارُّ وبَقِيَتْ "أنِّي" في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ورُوِيَ أنَّ سَبَبَ مِحْنَةِ أيُّوبَ عَلَيْهِ السَلامُ أنَّهُ دَخَلَ مَعَ قَوْمٍ عَلى مَلِكٍ جارٍ عَلَيْهِمْ فَأغْلَظَ لَهُ القَوْمُ ولَيَّنَ لَهُ أيُّوبُ القَوْلَ خَوْفًا مِنهُ عَلى مالِهِ، فَعاقَبَهُ اللهُ عَلى ذَلِكَ، ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يُقالُ لَهُ: ما لَكَ لا تَدْعُو في العافِيَةِ؟ فَكانَ يَقُولُ: إنِّي لَأسْتَحِيِي مِنَ اللهِ أنْ أسْألَهُ زَوالَ عَذابِهِ حَتّى يَمُرَّ عَلَيَّ فِيهِ ما مَرَّ مِنَ الرَخاءِ، وأصابَهُ البَلاءُ - فِيما رُوِيَ - وهو ابْنُ ثَمانِينَ سَنَةً.
{"ayahs_start":82,"ayahs":["وَمِنَ ٱلشَّیَـٰطِینِ مَن یَغُوصُونَ لَهُۥ وَیَعۡمَلُونَ عَمَلࣰا دُونَ ذَ ٰلِكَۖ وَكُنَّا لَهُمۡ حَـٰفِظِینَ","۞ وَأَیُّوبَ إِذۡ نَادَىٰ رَبَّهُۥۤ أَنِّی مَسَّنِیَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّ ٰحِمِینَ","فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرࣲّۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَـٰبِدِینَ"],"ayah":"فَٱسۡتَجَبۡنَا لَهُۥ فَكَشَفۡنَا مَا بِهِۦ مِن ضُرࣲّۖ وَءَاتَیۡنَـٰهُ أَهۡلَهُۥ وَمِثۡلَهُم مَّعَهُمۡ رَحۡمَةࣰ مِّنۡ عِندِنَا وَذِكۡرَىٰ لِلۡعَـٰبِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق