الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فَرَجَعُوا إلى أنْفُسِهِمْ فَقالُوا إنَّكم أنْتُمُ الظالِمُونَ﴾ ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾ ﴿قالَ أفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكم شَيْئًا ولا يَضُرُّكُمْ﴾ ﴿أُفٍّ لَكم ولِما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ﴿قالُوا حَرِّقُوهُ وانْصُرُوا آلِهَتَكم إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ ﴿قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ﴾ ﴿وَأرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الأخْسَرِينَ﴾
المَعْنى: فَظَهَرَ لَهم ما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ مِن أنَّ الأصْنامَ الَّتِي قَدْ أهَّلُوها لِلْعِبادَةِ يَنْبَغِي أنْ تُسْألَ وتُسْتَفْسَرَ، فَقالُوا: إنَّكم أنْتُمُ الظالِمُونَ في تَوْقِيفِ هَذا الرَجُلِ عَلى هَذا الفِعْلِ وأنْتُمْ مَعَكم مَن تَسْألُونَ، ثُمُ ارْتَكَبُوا في ضَلالِهم ورَأوا بِالفِكْرَةِ وبَدِيهَةِ العَقْلِ أنَّ الأصْنامَ لا تَنْطِقُ، فَساقَهم ذَلِكَ حَتّى نَطَقُوا عنهُ إلى مَوْضِعِ قِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿نُكِسُوا عَلى رُءُوسِهِمْ﴾ اسْتِعارَةٌ لِلَّذِي يَرْتَطِمْ في غَيِّهِ كَأنَّهُ مَنكُوسٌ عَلى رَأْسِهِ، فَهي أقْبَحُ هَيْئَةٍ لِلْإنْسانِ، وكَذَلِكَ هَذا هو في أسْوَأِ حالاتِ النَظَرِ، فَقالُوا لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ حِينَ نُكِسُوا في حَيْرَتِهِمْ: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ﴾، أيْ: فَما بالُكَ تَدْعُو إلى ذَلِكَ؟ فَوَجَدَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ عِنْدَ هَذِهِ المَقالَةِ مَوْضِعَ الحُجَّةِ فَوَقَفَهم مُوَبِّخًا عَلى عِبادَتِهِمْ تَماثِيلَ لا تَنْفَعُ بِذاتِها ولا تَضُرُّ، ثُمْ حَقَّرَ شَأْنَها وأزْرى بِها في قَوْلِهِ: "أُفٍّ لَكُمْ".
(p-١٧٩)وَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "أُفَّ لَكُمْ" بِالفَتْحِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وعاصِمْ - في رِوايَةِ أبِي بَكْرٍ -: "أُفِّ لَكُمْ" بِالكَسْرِ وتَرَكِ التَنْوِينِ فِيهِما، وقَرَأ نافِعٌ وحَفْصٌ عن عاصِمْ: "أُفٍّ لَكُمْ" بِالكَسْرِ والتَنْوِينِ. و"أُفٍّ" لَفْظَةٌ تُقالُ عِنْدَ المُسْتَقْذَراتِ مِنَ الأشْياءِ فَيُسْتَعارُ ذَلِكَ لِلْمَكْرُوهِ مِنَ المَعانِي كَهَذا وغَيْرِهِ.
فَلَمّا غَلَبَهم إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ مِن جِهَةِ النَظَرِ والحُجَّةِ نَكَّسُوا رُؤُوسَهم وأخَذَتُهم عِزَّةٌ بِإثْمٍ وانْصَرَفُوا إلى طَرِيقِ الغَشْمِ والغَلَبَةِ فَقالُوا: "حَرِّقُوهُ"، ورُوِيَ أنَّ قائِلَ هَذِهِ المَقالَةِ هو رَجُلٌ مِنَ الأكْرادِ مِن أعْرابِ فارِسٍ، أيْ مِن بادِيَتِها، فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الأرْضَ فَهو يَتَلَجْلَجُ فِيها إلى يَوْمِ القِيامَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ تَحْرِيضٌ، كَما تَقُولُ: أعْزِمْ عَلى كَذا إنْ كُنْتَ عازِمًا.
ورُوِيَ أنَّهم لَمّا اجْتَمَعَ رَأْيُهم عَلى تَحْرِيقِهِ حَبَسَهُ نُمْرُودُ المَلِكُ، وأمَرَ بِجَمْعِ الحَطَبِ فَجُمِعَ في مُدَّةِ أشْهُرٍ، وكانَ المَرِيضُ يَجْعَلُ عَلى نَفْسِهِ نَذْرًا إنْ هو بَرِئَ أنْ يَجْمَعَ كَذا وكَذا حِزْمَةً حَتّى اجْتَمَعَ مِنَ الحَطَبِ - مِمّا تَبَرَّعَ بِهِ الناسُ ومِمّا جُلِبَ لِلْمَلِكِ مِن أهْلِ الرَساتِيقِ - كالجَبَلِ مِنَ الحَطَبِ، ثُمْ أُضْرِمْ نارًا، فَلَمّا أرادُوا طَرْحَ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ فِيهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلى القُرْبِ مِنهُ، فَجاءَهم إبْلِيسُ في صُورَةِ شَيْخٍ فَقالَ لَهُمْ: أنا أصْنَعُ لَكم آلَةً يُلْقى بِها في النارِ، فَعَلَّمَهم صَنْعَةَ المَنجَنِيقِ، ثُمْ أُخْرِجَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ فَشُدَّ بِرِباطٍ ووُضِعَ في كِفَّةِ المَنجَنِيقِ ورُمِيَ بِهِ فُوُضِعَ في النارِ، وقَدْ قِيلَ لِلنّارِ: ﴿كُونِي بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ﴾ فاحْتَرَقَ الحَبْلُ الَّذِي رُبِطَ بِهِ فَقَطْ، ورُوِيَ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ جاءَهُ وهو في الهَواءِ فَقالَ لَهُ: ألَكَ حاجَةٌ؟ فَيُرْوى أنَّهُ قالَ: أمّا إلَيْكَ فَلا. ويُرْوى أنَّهُ قالَ لَهُ: إنِّي خَلِيلٌ، وإنَّما أطْلُبُ حاجَتِي مِن خَلِيلِي لا مِن رَسُولِهِ، فَقالَ اللهُ تَعالى: يا إبْراهِيمُ قَطَعْتَ الواسِطَةَ بَيْنِي وبَيْنَكَ لَأقْطَعَنَّها بَيْنِي وبَيْنَ النارِ، يا نارُ كُونِي بَرْدًا (p-١٨٠)وَسَلامًا، ورُوِيَ أنَّهُ حِينَ خُوطِبَتِ النارُ خَمَدَتْ كُلُّ نارٍ في الأرْضِ، ورُوِيَ أنَّ الغُرابَ كانَ يَنْقُلُ الحَطَبَ إلى نارِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ، ورُوِيَ أنَّ الوَزَغَةَ كانَتْ تَنْفُخُ عَلَيْهِ لِتَضْرَمَ، وكَذَلِكَ البَغْلُ، ورُوِيَ أنَّ العَضْرَفُوطَ والخُطّافَ والضُفْدَعَ كانُوا يَنْقُلُونَ الماءَ لِتَطْفَأ النارُ، فَأبْقى اللهُ عَلى هَذِهِ الوِقايَةَ وسَلَّطَ عَلى تِلْكَ الأُخْرى النَوائِبَ والأيْدِيَ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ فِيما رُوِيَ: إنَّ اللهَ تَعالى لَوْ لَمْ يَقُلْ: "وَسَلامًا" لَهَلَكَ إبْراهِيمُ مِن بَرْدِ النارِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وقَدْ أكْثَرَ الناسُ في قَصَصِ حَرْقِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ، وذَكَرُوا تَحْدِيدَ مُدَّةِ بَقائِهِ في النارِ وصُورَةَ بَقائِهِ فِيها مِمّا رَأيْتُ اخْتِصارَهُ لِقِلَّةِ صِحَّتِهِ، والصَحِيحُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ أُلْقِيَ في النارِ فَجَعَلَها اللهُ تَعالى عَلَيْهِ بَرْدًا وسَلامًا فَخَرَجَ مِنها سالِمًا، وكانَتْ أعْظَمَ آيَةٍ، ورُوِيَ أنَّهم قالُوا: إنَّها نارٌ مَسْحُورَةٌ لا تَحْرِقُ، فَرَمَوْا فِيها شَيْخًا مِنهم فاحْتَرَقَ، ورُوِيَ أنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ كانَ لَهُ بَسْطَةٌ وطَعامٌ في تِلْكَ النارِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الجَنَّةِ، ورُوِيَ أنَّ العِيدانَ أيْنَعَتْ وأثْمَرَتْ لَهُ هُنالِكَ ثِمارُها الَّتِي كانَتْ أُصُولَها.
وقَوْلُهُ: "وَسَلامًا" مَعْناهُ: وسَلامَةً، وقالَ بَعْضُهُمْ: هي تَحِيَّةٌ مِنَ اللهِ تَعالى لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا ضَعِيفٌ، وكانَ الوَجْهُ أنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا.
و"الكَيْدُ" هو ما أرادُوا مِن حَرْقِهِ، وكانُوا في خَسارَةٍ مِن كُفْرِهِمْ وغَلَبَتِهِ لَهم وحَرْقِ الشَيْخِ الَّذِي جَرَّبُوا بِهِ النارَ، ورُوِيَ أنَّ المَلِكَ بَنى بُنْيانًا واطَّلَعَ مِنهُ عَلى النارِ فَرَأى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ ومَعَهُ ناسٌ فَعَجِبَ وسَألَ: هَلْ طُرِحَ مَعَهُ أحَدٌ؟ فَقِيلَ لَهُ: لا، فَناداهُ فَقالَ: مَن أُولَئِكَ؟ فَقالَ: هم مَلائِكَةُ رَبِّي.
(p-١٨١)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والمَرْوِيُّ في هَذا كَثِيرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ.
{"ayahs_start":64,"ayahs":["فَرَجَعُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ فَقَالُوۤا۟ إِنَّكُمۡ أَنتُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ","ثُمَّ نُكِسُوا۟ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ یَنطِقُونَ","قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَضُرُّكُمۡ","أُفࣲّ لَّكُمۡ وَلِمَا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ","قَالُوا۟ حَرِّقُوهُ وَٱنصُرُوۤا۟ ءَالِهَتَكُمۡ إِن كُنتُمۡ فَـٰعِلِینَ","قُلۡنَا یَـٰنَارُ كُونِی بَرۡدࣰا وَسَلَـٰمًا عَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ","وَأَرَادُوا۟ بِهِۦ كَیۡدࣰا فَجَعَلۡنَـٰهُمُ ٱلۡأَخۡسَرِینَ"],"ayah":"ثُمَّ نُكِسُوا۟ عَلَىٰ رُءُوسِهِمۡ لَقَدۡ عَلِمۡتَ مَا هَـٰۤؤُلَاۤءِ یَنطِقُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق