الباحث القرآني

(p-١٥٩)قوله عزّ وجلّ: ﴿أمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هم يُنْشِرُونَ﴾ ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهُ رَبِّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ وهم يُسْألُونَ﴾ ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم هَذا ذِكْرُ مِن مَعِيَ وذِكْرُ مِن قَبْلِي بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ فَهم مُعْرِضُونَ﴾ هَذِهِ "أمُ" الَّتِي هي بِمَنزِلَةِ ألِفِ الِاسْتِفْهامِ، وهي هُنا تَقْرِيرٌ وتَوْقِيفٌ، ومَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أنَّها بِمَنزِلَةِ "بَلْ" مَعَ ألِفِ الِاسْتِفْهامِ، كَأنَّ في القَوْلِ إضْرابًا عَنِ الأوَّلِ ووَقَفَهُمُ اللهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: هَلِ اتَّخَذُوا آلِهَةً يُحْيُونَ ويَخْتَرِعُونَ؟ أيْ: لَيْسَتْ آلِهَتُكم كَذَلِكَ، فَهي غَيْرُ آلِهَةٍ؛ لِأنَّ مِن صِفَةِ الإلَهِ القُدْرَةَ عَلى الإحْياءِ والإماتَةِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يُنْشِرُونَ" بِضَمِّ الياءِ، بِمَعْنى: يُحْيُونَ غَيْرَهُمْ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ أُخْرى: "يَنْشُرُونَ" بِمَعْنى يَحْيَوْنَ هم وتُدُومُ حَياتُهُمْ، يُقالُ: نَشَرَ المَيِّتُ وأنْشَرَهُ اللهُ. ثُمْ بَيَّنَ تَبارَكَ وتَعالى أمْرَ التَمانُعِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللهُ لَفَسَدَتا﴾، وذَلِكَ بِأنَّهُ كانَ يَبْغِي بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ ويَذْهَبُ بِما خَلَقَ، واقْتِضابُ القَوْلِ في هَذا أنَّ إلَهَيْنِ لَوْ فُرِضا فَرَّقَ بَيْنَهُما الِاخْتِلافُ في تَحْرِيكِ جِرْمٍ وتَسْكِينِهِ، فَمُحالٌ أنْ تَتِمُ الإرادَتانِ، ومُحالٌ ألّا تَتِمّا جَمِيعًا، وإذا تَمَّتِ الواحِدَةُ كانَ صاحِبُ الأُخْرى عاجِزًا، وهَذا لَيْسَ بِإلَهٍ، وجَوازُ الِاخْتِلافِ عَلَيْهِما بِمَنزِلَةِ وُقُوعِهِ مِنهُما. ونَظَرٌ آخَرُ، وذَلِكَ أنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَخْرُجُ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ فَمُحالٌ أنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ قُدْرَتانِ، فِإذا كانَتْ قُدْرَةُ أحَدِهِما تُوجِدُ بَقِيَ الآخَرُ فَضْلًا لا مَعْنًى لَهُ في ذَلِكَ الجُزْءِ، ثُمْ يَتَمادى النَظَرُ هَكَذا جُزْءًا جُزْءًا. ثُمْ نَزَّهَ تَبارَكَ وتَعالى نَفْسَهُ عَمّا وصَفَهُ أهْلُ الجَهالَةِ والكُفْرِ. ثُمْ وصَفَ نَفْسَهُ تَعالى بِأنَّهُ ﴿لا يُسْألُ عَمّا يَفْعَلُ﴾، وهَذا وصْفٌ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: إمّا أنْ (p-١٦٠)يُرِيدَ أنَّهُ بِحَقِّ مُلْكِهِ وسُلْطانِهِ لا يُعارَضُ ولا يُسْألُ عن شَيْءٍ يَفْعَلُهُ؛ إذْ لَهُ أنْ يَفْعَلَ في مُلْكِهِ ما يَشاءُ، وإمّا أنْ يُرِيدَ أنَّهُ مُحْكًمُ الأفْعالِ وواضِعُ كُلِّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ، فَلَيْسَ في أفْعالِهِ سُؤالٌ ولا اعْتِراضٌ. وهَؤُلاءِ مِنَ البَشَرِ يُسْألُونَ لِهاتَيْنِ العِلَّتَيْنِ؛ لِأنَّهم لَيْسُوا مالِكِينَ، ولِأنَّهم في أفْعالِهِمْ خَلَلٌ كَثِيرٌ. ثُمْ قَرَّرَهم تَعالى ثانِيَةً عَلى اتْخِاذِ الآلِهَةِ، وفي تَكْرارِ هَذا التَقْرِيرِ مُبالَغَةٌ في نَكِيرِهِ وبَيانِ فَسادِهِ، وفي هَذا التَقْرِيرِ زِيادَةٌ عَلى الأوَّلِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿مِن دُونِهِ﴾، فَكَأنَّهُ قَرَّرَهم هُنا عَلى قَصْدِ الكُفْرِ بِاللهِ عَزَّ وجَلَّ، ثُمْ دَعاهم إلى الحُجَّةِ والإتْيانِ بِالبُرْهانِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا ذِكْرُ مَن مَعِيَ وذِكْرُ مَن قَبْلِي﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِـ "هَذا" جَمِيعَ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ قَدِيمَها وحَدِيثَها، أيْ: لَيْسَ فِيها بُرْهانٌ عَلى اتِّخاذِ الآلِهَةِ مِن دُونِ اللهِ، بَلْ فِيها ضِدُّ ذَلِكَ، ويَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: "هَذا" القُرْآنَ، والمَعْنى: فِيهِ ذِكْرُ الأوَّلِينَ وذِكْرُ الآخِرِينَ، فَذِكْرُ الآخِرِينَ بِالدَعْوَةِ وبَيانِ الشَرْعِ لَهم ورَدِّهم عَلى طَرِيقِ النَجاةِ، وذِكْرُ الأوَّلِينَ بَقَصِّ أخْبارِهِمْ وذِكْرِ الغُيُوبِ في أُمُورِهِمْ. ومَعْنى الكَلامِ - عَلى هَذا التَأْوِيلِ - عَرْضُ القُرْآنِ في مَعْرِضِ البُرْهانِ، أيْ: هاتُوا بُرْهانَكم فَهَذا بُرْهانِي أنا ظاهِرٌ في ذِكْرِ مَن مَعِي وذِكْرِ مَن قَبْلِي. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "هَذا ذِكْرُ مَن وذِكْرُ مَن" بِالإضافَةِ فِيهِما، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "هَذا ذِكْرُ مَن مَعِيَ" بِالإضافَةِ "وَذِكْرٌ مِن قَبْلِي" بِتَنْوِينِ "ذِكْرٌ" الثانِي وكَسْرِ المِيمِ مِن قَوْلِهِ: "مِن قَبْلِي"، وقَرَأ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ، وابْنُ مُصَرِّفِ بِالتَنْوِينِ في "ذِكْرٌ" مِنَ المَوْضِعَيْنِ وكَسْرِ المِيمِ في "مِن" في المَوْضِعَيْنِ، وضَعَّفَ أبُو حاتِمْ هَذِهِ القِراءَةَ، كَسْرَ المِيمِ في الأُولى، ولَمْ يَرَ لَها وجْهًا. (p-١٦١)ثُمْ حَكَمَ عَلَيْهِمْ تَعالى بَأنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ الحَقَ لِإعْراضِهِمْ عنهُ، ولَيْسَ المَعْنى: فَهم مُعْرِضُونَ لِأنَّهم لا يَعْلَمُونَ، بَلِ المَعْنى: فَهم مُعْرِضُونَ ولِذَلِكَ لا يَعْلَمُونَ الحَقَّ، وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "الحَقُّ" بِالرَفْعِ عَلى مَعْنى: هَذا القَوْلُ هو الحَقُّ، والوَقْفُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ عَلى "لا يَعْلَمُونَ".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب