الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ﴾ ﴿قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِن أثَرِ الرَسُولِ فَنَبَذْتُها وكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾ ﴿قالَ فاذْهَبْ فَإنَّ لَكَ في الحَياةِ أنْ تَقُولَ لا مِساسَ وإنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وانْظُرْ إلى إلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ في اليَمِّ نَسْفًا﴾ (p-١٢٧)المَعْنى: قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ مُخاطِبًا لِلسّامِرِيِّ: فَما خَطْبُكَ؟ وقَوْلُهُ: "فَما خَطْبُكَ" كَما تَقُولُ: ما شَأْنُكَ؟ وما أمْرُكَ؟، لَكِنَّ لَفْظَةَ الخَطْبِ تَقْتَضِي انْتِهارًا؛ لِأنَّ الخَطْبَ مُسْتَعْمَلٌ في المَكارِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: ما نَحْسُكَ؟ وما شُؤْمُكَ؟ وما هَذا الخَطْبُ الَّذِي جاءَ مِن قِبَلِكَ. و" السامِرِيُّ " قِيلَ: هو مَنسُوبٌ إلى قَبِيلَةٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، ويُقالُ: إلى قَرْيَةٍ يُقالُ لَها: سامِرَةُ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهِيَ مَعْرُوفَةٌ اليَوْمَ بِبِلادِ مِصْرَ، وقِيلَ: اسْمُهُ مُوسى بْنُ ظَفِرَ. قَوْلُهُ تَعالى: "بَصُرْتُ"، قَرَأتْ فِرْقَةٌ "بَصُرْتُ" بِضَمِّ الصادِ عَلى مَعْنى: صارَتْ بَصِيرَتِي بِصُورَةٍ ما، فَهو كَظَرُفْتُ وشَرُفْتُ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بَصِرْتُ" بِكَسْرِ الصادِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ مِنَ البَصِيرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ مِنَ البَصَرِ، وذَلِكَ أنَّ في أمْرِ السامِرِيِّ ما زادَ عَلى الناسِ بِالبَصَرِ، وهو وجْهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ وفَرَسُهُ، وبِالبَصِيرَةِ، وهو ما عَلِمَهُ مِن أنَّ القَبْضَةَ إذا نَبَذَها مَعَ الحُلِيِّ جاءَهُ مِن ذَلِكَ ما يُرِيدُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "يُبْصِرُوا بِهِ" بِالياءِ، يُرِيدُ بَنِي إسْرائِيلَ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: "تُبْصِرُوا" بِالتاءِ مِن فَوْقُ، يُرِيدُ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "قَبْضَةً" بِالضادِ مَنقُوطَةً، بِمَعْنى: أخَذْتُ بِكَفِّي مَعَ الأصابِعِ، وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ الزُبَيْرِ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ، وغَيْرُهُمْ: "فَقَبَصْتُ قَبْصَةً" بِالصادِّ غَيْرِ مَنقُوطَةٍ، بِمَعْنى: أخَذْتُ بِأصابِعِي فَقَطْ، وقَرَأ الحَسَنُ - بِخِلافٍ عنهُ - "قُبْصَةً" بِضَمِّ القافِ. و"الرَسُولُ" جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ، و"الأثَرُ" هو تُرابٌ تَحْتَ حافِرِ فَرَسِهِ. (p-١٢٨)وَسَبَبُ مَعْرِفَةِ السامِرِيِّ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ ومَيَّزَهُ فِيما رُوِيَ أنَّ أُمُ السامِرِيِّ ولَدَتْهُ عامَ الذَبْحِ فَطَرَحَتْهُ في مَغارَةٍ، فَكانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَلامُ يَغْذُوهُ فِيها ويَحْمِيَهُ حَتّى كَبِرَ وشَبَّ، فَمَيَّزَهُ بِذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ. وقَوْلُهُ: "فَنَبَذْتُها" أيْ عَلى الحُلِيِّ فَكانَ مِنها ما تَراهُ، وهَذا مَحْذُوفٌ مِنَ اللَفْظِ يَقْتَضِيهِ الحالُ والمُخاطَبَةُ، ثُمْ قالَ: ﴿وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾، أيْ: كَما وقَعَ وحَدَثَ قَرَّبَتْ لِي نَفْسِي وجَعَلَتْهُ لِي سُؤْلًا ورَأْبًا حَتّى فَعَلَتْهُ. وكانَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لا يَقْتُلُ بَنِي إسْرائِيلَ إلّا في حَدٍّ أو وحْيٍ، فَعاقَبَهُ بِاجْتِهادِ نَفْسِهِ بِأنْ أبْعَدَهُ ونَحّاهُ عَنِ الناسِ، وأمَرَ بَنِي إسْرائِيلَ بِاجْتِنابِهِ واجْتِنابِ قَبِيلَتِهِ، وأنْ لا يُؤاكِلُوا ولا يُناكِحُوا، ونَحْوَ هَذا، وعَلَّمَهُ مَعَ ذَلِكَ، وجَعَلَ لَهُ أنْ يَقُولَ مُدَّةَ حَيّاتِهِ: "لا مِساسَ"، أيْ: لا مُماسَّةَ ولا إذايَةَ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لا مِساسَ" بِكَسْرِ المِيمِ وفَتْحِ السِينِ، عَلى النَصْبِ بِالتَبْرِئَةِ، وهو اسْمٌ يَنْصَرِفُ، ومِنهُ قَوْلُ النابِغَةِ: ؎ أصْبَحَ مِن ذاكَ كالسامِرِيِّ إذْ قالَ مُوسى لَهُ لا مِساسًا ومِنهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ: ؎ حَتّى يَقُولَ الأزْدُ لا مِساسًا واسْتِعْمالُهُ عَلى هَذا كَثِيرٌ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ: "لا مَساسِ" بِفَتْحِ المِيمِ وكَسْرِ السِينِ، (p-١٢٩)وَهُوَ مَعْدُولٌ عَنِ المَصْدَرِ كَفُجّارٍ ونَحْوِهِ، وشَبَّهَهُ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ بِنِزالٍ ودِراكٍ ونَحْوِهِ، والشَبَهُ صَحِيحٌ مِن حَيْثُ هي مَعْدُولاتٌ، وفارَقَهُ في أنَّ هَذِهِ عَدَلَتْ عَنِ الأمْرِ، و"مِساسَ" و"فُجّارَ" عَدَلَتْ عَنِ المَصْدَرِ، ومِن هَذا قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ تَمِيمٌ كَرَهْطِ السامِرِيِّ وقَوْلِهِ ؎ ألّا لا يُرِيدُ السامِرِيُّ مِساسَ وقَرَأ الجُمْهُورُ: "تُخْلَفَهُ" بِفَتْحِ اللامِ، عَلى مَعْنى: لَنْ يَقَعَ فِيهِ خُلْفٌ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "لَنْ تُخْلِفَهُ" بِكَسْرِ اللامِ، عَلى مَعْنى: لَنْ تَسْتَطِيعَ الزَوَغانَ عنهُ والحَيْدَةَ، فَتَزُولُ عن مَوْعِدِ العَذابِ، وقَرَأ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: "لَنْ نُخْلِفَهُ" بِالنُونِ، قالَ أبُو الفَتْحِ: المَعْنى: لَنْ نُصادِفَهُ مُخَلَّفًا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكُلُّها بِمَعْنى الوَعِيدِ والتَهْدِيدِ. ثُمْ وبَّخَهُ عَلَيْهِ السَلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿وانْظُرْ إلى إلَهِكَ﴾ الآيَةَ أيِ: انْظُرْ صَنِيعَكَ وتَغْيِيرَنا لَهُ ورَدَّنا الأمْرَ فِيهِ إلى الواجِبِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "ظَلْتَ" بِفَتْحِ الظاءِ، عَلى حَذْفِ اللامِ الواحِدَةِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "ظِلْتَ" بِكَسْرِ الظاءِ عَلى نَقْلِ حَرَكَةِ اللامِ إلى الظاءِ ثُمْ حَذْفِها بَعْدَ ذَلِكَ، نَحْوَ قَوْلِ الشاعِرِ: ؎ لا أنَّ العِتاقَ مِنَ المَطايا ∗∗∗ أحُسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شَوَسٌ (p-١٣٠)أرادَ: أحْسُسْنَ، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ السِينِ إلى الحاءِ ثُمْ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا، وفي بَعْضِ الرِواياتِ: حُسَيْنَ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "ظَلِلْتَ"، و"ظَلَّ" مَعْناهُ: أقامَ يَفْعَلُ الشَيْءَ نَهارًا، ولَكِنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ في الدائِبِ لَيْلًا ونَهارًا، بِمَثابَةِ طَفِقَ. و"عاكِفًا" مَعْناهُ: مُلازِمًا. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لَنُحْرِقَنَّهُ" بِتَخْفِيفِ الراءِ بِمَعْنى: بِالنارِ، وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ: "لَنَحْرُقَنَّهُ" بِفَتْحِ النُونِ وضَمِّ الراءِ خَفِيفَةً، بِمَعْنى: لَنَبْرُدَنَّهُ بِالمِبْرَدِ، وقَرَأ نافِعٌ وغَيْرُهُ: "لَنُحَرِّقَنَّهُ" بِضَمِّ النُونِ وكَسْرِ الراءِ وشَدِّها، وهَذا تَضْعِيفُ مُبالَغَةٍ لا تَعْدِيَةٍ، وهي قِراءَةٌ تَحْتَمِلُ الحَرْقَ بِالنارِ، وتَحْتَمِلُ بِالمِبْرَدِ، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهُما: "لَنَذْبَحَنَّهُ ثُمْ لَنَحْرُقَنَّهُ ثُمْ لَنَنْسِفَنَّهُ"، وهَذِهِ القِراءَةُ مَعَ رِوايَةِ مَن رَوى أنَّ العِجْلَ صارَ لَحْمًا ودَمًا، وعَلى هَذِهِ الرِوايَةِ يَتَرَكَّبُ أنْ يَكُونَ هُناكَ حَرْقٌ بِنارٍ، وإلّا فَإذا كانَ جَمادًا مِن ذَهَبٍ فَإنَّما هو حَرْقٌ بِمِبْرَدٍ، اللهم إلّا أنْ تَكُونَ إذابَهً، ويَكُونُ النَسْفُ مُسْتَعارًا لِتَفْرِيقِهِ في اليَمِّ مُذابًا. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لَنَنْسِفَنَّهُ" بِكَسْرِ السِينِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لَنَنْسُفَنَّهُ" بِضَمِّ السِينِ، و"النَسْفُ": تَفْرِيقُ الرِيحِ الغُبارَ، وكُلَّ ما هو مِثْلَهُ كَتَفْرِيقِ الغِرْبالِ ونَحْوِهُ فَهو نَسْفٌ. و"اليَمُّ": غَمَرَ الماءَ مِن بَحْرٍ أو نَهْرٍ، وكُلُّ ما غَمَرَ الإنْسانَ مِنَ الماءِ فَهو يَمٌّ. و"نَسْفًا" تَأْكِيدٌ بِالمَصْدَرِ، واللامِ في قَوْلِهِ: "لَنُحَرِّقَنَّهُ" لامُ القَسَمِ. وفِي هَذِهِ الآيَةِ مِنَ القِصَصِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بَرَدَ العِجْلَ حَتّى رَدَّهُ كالغُبارِ ثُمْ ذَراهُ في البَحْرِ، ثُمْ أمَرَ بَنِي إسْرائِيلَ أنْ يَشْرَبَ جَمِيعَهم مِنَ الماءِ، فَمَن شَرِبَ مِمَّنْ كانَ في قَلْبِهِ حُبُّ العِجْلِ خَرَجَ عَلى شارِبِهِ مِنَ الذَهَبِ فَضِيحَةً لَهُ، وقالَ مَكِّيُّ رَحِمَهُ اللهُ (p-١٣١)وَأسْنَدَ -: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ كانَ مَعَ السَبْعِينَ في المُناجاةِ، وحِينَئِذٍ وقَعَ أمْرُ العِجْلِ، وإنَّ اللهَ تَبارَكَ وتَعالى أعْلَمَ مُوسى بِذَلِكَ فَكَتَمَهُ عنهُمْ، وجاءَ بِهِمْ حَتّى سَمِعَ لَغَطَ بَنِي إسْرائِيلَ حَوْلَ العِجْلِ، فَحِينَئِذٍ أعْلَمَهم مُوسى. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ رِوايَةُ الجُمْهُورِ عَلى خِلافِها، وإنَّما تَعَجَّلَ مُوسى وحْدَهُ فَوَقَعَ أمْرُ العِجْلِ، ثُمْ جاءَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ وصَنَعَ بِالعِجْلِ ما صَنَعَ، ثُمْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالسَبْعِينَ عَلى مَعْنى الشَفاعَةِ في ذَنْبِ بَنِي إسْرائِيلَ، وأنْ يُطْلِعَهم أيْضًا عَلى أمْرِ المُناجاةِ فَكانَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ نَهْضَتانِ، واللهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب