الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ قَدْ أنْجَيْناكم مِن عَدُوِّكم وواعَدْناكم جانِبَ الطُورِ الأيْمَنَ ونَزَّلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَلْوى﴾ ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكم ولا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكم غَضَبِي ومَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى﴾ ﴿وَإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى﴾
ظاهِرُ هَذِهِ الآياتِ أنَّ هَذا القَوْلَ قِيلَ لِبَنِي إسْرائِيلَ حِينَئِذٍ عِنْدَ حُلُولِ هَذِهِ النِعَمِ الَّتِي عَدَّدَها اللهُ تَعالى عَلَيْهِمْ، وبَيْنَ خُرُوجِهِمْ مِنَ البَحْرِ وبَيْنَ هَذِهِ المَقالَةِ مُدَّةٌ وحَوادِثُ، ولَكِنْ يَخُصُّ اللهُ تَعالى بِالذِكْرِ ما يَشاءُ مِن ذَلِكَ. ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ المَقالَةُ خُوطِبَ بِها مُعاصِرُو رَسُولِ اللهِ ﷺ، المَعْنى: هَذا فِعْلُنا بِأسْلافِكُمْ، ويَكُونُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ "كُلُوا" بِتَقْدِيرِ: قِيلَ لَهُمْ: كُلُوا، وتَكُونُ الآيَةُ - عَلى هَذا - اعْتِراضًا في أثْناءِ قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ القَصْدُ بِهِ تَوْبِيخُ هَؤُلاءِ الحُضُورِ إذْ لَمْ يَصْبِرْ سَلَفُهم عَلى أداءِ شُكْرِ نِعَمِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، والمَعْنى الأوَّلُ أظْهَرُ وأبْيَنُ.
وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو: [أنْجَيْنا - وواعَدْنا - ونَزَّلْنا عَلَيْكم ورَزَقْناكُمْ]، إلّا أنَّ أبا عَمْرٍو قَرَأ: "وَعَدْناكُمْ" بِغَيْرِ ألْفٍ في كُلِّ القُرْآنِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: [أنْجَيْتُ - وواعَدْتُ ونَزَّلْتُ ورَزَقْناكُمْ]. وقَوْلُهُ: "وَواعَدْناكُمْ" قِيلَ: هي لُغَةٌ في "وَعَدَ" لا تَقْتَضِي فِعْلَ اثْنَيْنِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنْ حُمِلَتْ عَلى المَعْهُودِ؛ فَلِأنَّ التَلَقِّيَ والعَهْدَ والعَزْمَ عَلى ذَلِكَ يَقُومُ مَقامَ المُواعَدَةِ.
(p-١١٧)وَقَصَصُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللهَ تَعالى لِما أنْجى بَنِي إسْرائِيلَ، وغَرِقَ فِرْعَوْنُ، وعَدَ سُبْحانَهُ وتَعالى بَنِي إسْرائِيلَ ومُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أنْ يَسِيرُوا إلى جانِبِ طُورِ سَيْناءَ لِيُكَلِّمْ فِيهِ مُوسى ويُناجِيَهُ بِما فِيهِ صَلاحُهم بِأوامِرِهِمْ ونَواهِيهِمْ، فَلَمّا أخَذُوا في السَيْرِ تَعَجَّلَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لِلِقاءِ رَبِّهِ حَسْبَما يَأْتِي ذِكْرُهُ بَعْدُ.
وقالَتْ فِرْقَةٌ: هَذا الطُورِ هو الَّذِي كَلَّمَ اللهُ تَعالى فِيهِ مُوسى أوَّلًا حَيْثُ رَأى النارَ وكانَ في طَرِيقِهِ مِنَ الشامِ إلى مِصْرَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: لَيْسَ بِهِ، و "الطُورُ": الجَبَلُ الَّذِي لا شُعَراءَ فِيهِ، وقَوْلُهُ: "الأيْمَنُ" إمّا أنْ يُرِيدَ اليَمَنَ، وإمّا أنْ يُرِيدَ اليَمِينَ بِالإضافَةِ إلى "ذِي يَمِينٍ"، إنْسانٍ أو غَيْرِهِ. و "المَنَّ والسَلْوى" طَعامُهُمْ، وقَدْ مَضى في البَقَرَةِ اسْتِيعابُ تَفْسِيرِهِما.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ يُرِيدُ الحَلالَ المُلِذَّ؛ لِأنَّ المَعْنى في هَذا المَوْضِعِ قَدْ جَمَعَهُما. واخْتَلَفَ الناسُ ما المَقْصُودُ الأوَّلُ بِلَفْظَةِ "الطَيِّبِ" في القُرْآنِ، فَقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: الحَلالُ، وقالَ الشافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ما يَطِيبُ لِلنُّفُوسِ، وساقَ إلى هَذا الخِلافِ تَفَقُّهُهم في الخِشاشِ والمُسْتَقْذَرِ مِنَ الحَيَوانِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَطْغَوْا فِيهِ﴾ مَعْناهُ: تَتَعَدَّوْنَ الحَدَّ وتَتَعَسَّفُونَ كالَّذِي فَعَلُوا. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "فَيَحِلُّ" بِكَسْرِ الحاءِ، و "يُحَلِّلُ" بِكَسْرِ اللامِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ وحْدَهُ: "فَيَحُلُّ" بِضَمِّ الحاءِ، و"يَحْلُلُ" بِضَمِّ اللامِ، ومَعْنى الأوَّلِ: فَيَجِبُ ويَحِقُّ، ومَعْنى الثانِي: فَيَقَعُ ويَنْزِلُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَقَدْ هَوى﴾ مَعْناهُ: سَقَطَ مِن عُلُوٍّ إلى سُفْلٍ، ومِنهُ قَوْلُ خَنافِرَ:
؎ فَهَوى هَوْيَ العِقابِ
(p-١١٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وإنْ لَمْ يَكُنْ سُقُوطًا فَهو تَشْبِيهٌ بِالساقِطِ، والسُقُوطُ حَقِيقَةٌ قَوْلُ الآخَرِ:
؎ ....................... ∗∗∗ هُوِيَّ الدَلْوِ أرْسَلَهُ الرِشاءُ
وشَبَّهَ الَّذِي وقَعَ في طامَّةٍ أو ورْطَةٍ بَعْدَ أنْ كانَ بِنَجْوَةٍ مِنها بِالساقِطِ، فالآيَةُ مِن هَذا، أيْ: هَوِيَ في جَهَنَّمَ وفي سُخْطِ اللهِ، وقِيلَ: أُخِذَ الفِعْلُ مِنَ الهاوِيَةِ وهو قَعْرُ جَهَنَّمَ.
ولِما حَذَّرَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى غَضَبَهُ والطُغْيانَ في نِعَمِهِ فَتَحَ بابَ الرَجاءِ لِلتّائِبِينَ، والتَوْبَةُ فَرْضٌ عَلى جَمِيعِ الناسِ لِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ النُورِ: ﴿وَتُوبُوا إلى اللهِ جَمِيعًا أيُّهَ المُؤْمِنُونَ﴾ [النور: ٣١] [النُورُ: ٣١]، والناسُ فِيهِ عَلى مَراتِبَ: إمّا مُواقِعُ الذَنَبِ وقُدْرَتُهُ عَلى ذَلِكَ باقِيَةٌ فَتَوْبَتُهُ النَدَمُ عَلى ما مَضى والإقْلاعُ التامُّ عن مِثْلِهِ في المُسْتَقْبَلِ، وإمّا الَّذِي واقَعَ الذَنْبَ ثُمْ زالَتْ قُدْرَتُهُ عَلى ذَلِكَ مِن شَيْخٍ أو بِآفَةٍ فَتَوْبَتُهُ النَدَمُ واعْتِقادُ التَرْكِ إنْ لَوْ كانَتْ قُدْرَةٌ، وأمّا مَن لَمْ يُواقِعْ ذَنْبًا فَتَوْبَتُهُ العَزْمُ عَلى تَرْكِ كُلِّ ذَنْبٍ، والتَوْبَةُ مِن ذَنْبٍ تَصِحُّ مَعَ الإقامَةِ عَلى غَيْرِهِ، وهي تَوْبَةٌ مُقَيَّدَةٌ، وإذا تابَ العَبْدُ ثُمْ عاوَدَ الذَنْبَ بِعَيْنِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ فَيَحْتَمِلُ حُذّاقُ أهْلِ السُنَّةِ ألّا يُعِيدَ اللهُ تَعالى عَلَيْهِ الذَنْبَ الأوَّلَ؛ لِأنَّ التَوْبَةَ كانَتْ مَحْضَةً، ويُحْتَمَلُ أنْ يُعِيدَهُ لِأنَّها تَوْبَةٌ لَمْ يُوفِ بِها.
واضْطَرَبَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ اهْتَدى﴾ مِن حَيْثُ وجَدُوا الهُدى ضِمْنَ الإيمانِ والعَمَلِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: ثُمْ لَزِمُ الإسْلامَ حَتّى يَمُوتَ عَلَيْهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: لَمْ يَشُكَّ في إيمانِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: ثُمُ اسْتَقامَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: ثُمْ أخَذَ بِسُنَّةِ (p-١١٩)نَبِيِّهِ ﷺ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: ثُمْ أصابَ العَمَلَ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: ثُمْ عَرَفَ أمْرَ مَشِيبِهِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: والى أهْلَ البَيْتِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ كُلُّها تَخْصِيصُ واحِدٍ مِنها دُونَ ما هو مِن نَوْعِهِ بَعِيدٌ لَيْسَ بِالقَوِيِّ، والَّذِي يَقْوى في مَعْنى "ثُمُ اهْتَدى" أنْ يَكُونَ: ثُمْ حَفِطَ مُعْتَقَداتِهِ مِن أنْ يُخالِفَ الحَقَّ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ، فَإنَّ الِاهْتِداءَ - عَلى هَذا الوَجْهِ - غَيْرُ الإيمانِ وغَيْرُ العَمَلِ، ورُبَّ مُؤْمِنٍ عَمِلَ صالِحًا قَدْ أوبَقَهُ عَدَمُ الِاهْتِداءِ كالقَدَرِيَّةِ والمُرْجِئَةِ وسائِرِ أهْلِ البِدَعِ والخَوارِجِ، فَمَعْنى "ثُمُ اهْتَدى": ثُمْ مَشى في عَقائِدِ الشَرْعِ عَلى طَرِيقٍ قَوِيمٍ، جَعَلَنا اللهُ تَعالى مِنهم.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وفِي حِفْظِ المُعْتَقَداتِ يَنْحَصِرُ عِظَمُ أمْرِ الشَرْعِ.
{"ayahs_start":80,"ayahs":["یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ قَدۡ أَنجَیۡنَـٰكُم مِّنۡ عَدُوِّكُمۡ وَوَ ٰعَدۡنَـٰكُمۡ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلۡأَیۡمَنَ وَنَزَّلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰ","كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡا۟ فِیهِ فَیَحِلَّ عَلَیۡكُمۡ غَضَبِیۖ وَمَن یَحۡلِلۡ عَلَیۡهِ غَضَبِی فَقَدۡ هَوَىٰ","وَإِنِّی لَغَفَّارࣱ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحࣰا ثُمَّ ٱهۡتَدَىٰ"],"ayah":"كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡا۟ فِیهِ فَیَحِلَّ عَلَیۡكُمۡ غَضَبِیۖ وَمَن یَحۡلِلۡ عَلَیۡهِ غَضَبِی فَقَدۡ هَوَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق