الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى﴾ ﴿قالَ لَهم مُوسى ويْلَكم لا تَفْتَرُوا عَلى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكم بِعَذابٍ وقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى﴾ ﴿فَتَنازَعُوا أمْرَهم بَيْنَهم وأسَرُّوا النَجْوى﴾ ﴿قالُوا إنْ هَذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أنْ يُخْرِجاكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِما ويَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلى﴾ ﴿فَأجْمِعُوا كَيْدَكم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وقَدْ أفْلَحَ اليَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى﴾ المَعْنى: فَجُمِعَ السَحَرَةُ ووَعَدَهم وأمْرَهم بِالإعْدادِ لِمُوسى، فَهَذا هو كَيْدُهُ، ثُمْ أتى فِرْعَوْنُ بِجَمْعِهِ وأهْلِ دَوْلَتِهِ، والسَحَرَةُ مَعَهُ، وكانَتْ عِصابَةٌ لَمْ يَخْلُقِ اللهُ تَعالى أسْحَرَ مِنها، وجاءَ أيْضًا مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِبَنِي إسْرائِيلَ مَعَهُ، فَقالَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لِلسَّحَرَةِ: "وَيْلَكُمْ"، وهَذِهِ مُخاطَبَةُ مُحَذِّرٍ، نَدَبَهم في هَذِهِ الآيَةِ إلى قَوْلِ الحَقِّ إذا رَأوهُ، وألّا يُباهِتُوا بِكَذِبٍ. وقَرَأ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، ونافِعٌ، وعاصِمْ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "فَيَسْحِتَكُمْ" بِفَتْحِ الياءِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفَصٌ عن عاصِمْ: "فَيُسْحِتَكُمْ" بِضَمِّ الياءِ، وهُما لُغَتانِ بِمَعْنى واحِدٍ، يُقالُ: سُحِتْ وأُسْحِتَ بِمَعْنى: أهْلَكَ وأذْهَبَ، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقَ:(p-١٠٥) ؎ عَضُّ زَمانٍ يا بْنَ مَرْوانَ لَمْ يَدَعْ مِنَ المالِ إلّا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ فَهَذا مِن أُسْحِتَ. فَلَمّا سَمِعَ السَحَرَةُ هَذِهِ المَقالَةَ هالَهم هَذا المَنزَعُ، ووَقَعَ في نُفُوسِهِمْ مِن مَهابَتِهِ رُعْبٌ شَدِيدٌ، وتَنازَعُوا أمْرَهُمْ، و"التَنازُعُ" يَقْتَضِي اخْتِلافًا كانَ بَيْنَهم في السِرِّ، أيْ: قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: هو مُحِقٌّ، وقالَ بَعْضُهُمْ: هو مُبْطِلٌ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللهِ فَسَيَغْلِبُنا، ونَحْوَ هَذا مِنَ الأقْوالِ الَّتِي تُعْهَدُ مِنَ الجُمُوعِ الكَثِيرَةِ في وقْتِ الخَوْفِ كالحَرْبِ ونَحْوَ هَذا، ومَعْلُومٌ أنَّ جَمِيعَ تَناجِيهِمْ إنَّما كانَ في أمْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما كانَ تَناجِيهِمْ بِالآيَةِ الَّتِي بَعَدَ هَذا ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والأظْهَرُ أنَّ تِلْكَ قِيلَتْ عَلانِيَةً، ولَوْ كانَ تَناجِيهِمْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ثُمْ تَنازَعٌ، و"النَجْوى": السِرُّ والمُسارَّةُ، أيْ: كانَ كُلُّ رَجُلٍ يُناجِي مَن يَلِيهِ، ثُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ سِرًّا مَخافَةَ فِرْعَوْنَ أنْ يَتَبَيَّنَ فِيهِمْ ضَعْفًا؛ لَأنَّهم حِينَئِذٍ لَمْ يَكُونُوا مُصَمِّمِينَ عَلى غَلَبَةِ (p-١٠٦)مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، بَلْ كانَ ظَنًّا مِن بَعْضِهِمْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ﴾ الآيَةُ. قَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "إنَّ" مُشَدَّدَةَ النُونِ "هَذانَ" بِألِفٍ ونُونٍ مُخَفَّفَةٍ لِلتَّثْنِيَةِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وحْدَهُ: "إنَّ هَذَيْنِ لَساحِرانِ"، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "إنْ هَذانِّ لَساحِرانِ" بِتَخْفِيفِ نُونِ "إنْ" وتَشْدِيدِ نُونِ "هَذانِ لَسَحَرانِ"، وقَرَأ حَفْصٌ عن عاصِمْ: "إنْ" خَفِيفَةً "هَذانِ" خَفِيفَةً أيْضًا "لَساحِرانِ". وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "إنْ هَذانَ إلّا ساحِرانِ"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "إنْ ذانِ لَساحِرانِ"، وقَرَأتْ فَرِقَّةٌ: "ما هَذانِ إلّا ساحِرانِ"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "إنْ هَذانِّ" بِتَشْدِيدِ النُونِ مِن "هَذانِّ". فَأمّا القِراءَةُ الأُولى، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: "إنَّ" بِمَعْنى: نَعَمْ، كَما رُوِيَ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ في خُطْبَتِهِ: إنِ الحَمْدُ لِلَّه بِرَفْعِ "الحَمْدُ"،» وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "إنْ وراكِبُها" حِينَ قالَ لَهُ الرَجُلُ: لَعَنَ اللهُ ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ، ويُدْخُلُ في هَذا التَأْوِيلِ أنَّ اللامَ لا تَدْخُلُ في خَبَرِ الِابْتِداءِ، وهو مِمّا يَجُوزُ في الشِعْرِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ أُمُ الحُلَيْسِ لَعَجُوزٌ شَهْرَبَهْ ∗∗∗ تَرْضى مِنَ اللَحْمِ بِعَظْمِ الرَقَبَهْ (p-١٠٧)وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ بِلُغَةِ بَنِي الحارِثِ بْنِ كَعْبٍ، وهو إبْقاءُ ألِفِ التَثْنِيَةِ في حالِ النَصْبِ والخَفْضِ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ زَوَّدَ مِنها بَيْنَ أُذُناهُ طَعْنَةً ∗∗∗ دَعَتْهُ إلى هابِي التُرابِ عَقِيمُ وقَوْلُ الآخَرِ: ؎ أطْرَقَ إطْراقَ الشُجاعِ ولَوْ يَرى ∗∗∗ مَساغًا لَناباهُ الشُجاعِ لَصَمَّها (p-١٠٨)وَتُعْزى هَذِهِ اللُغَةُ لِكِنانَةَ، وتُعْزى لَخَثْعَمَ، وقالَ الفِراءُ: الألْفُ في "هَذانِ" دِعامَةٌ ولَيْسَتْ بِمَجْلُوبَةٍ لِلتَّثْنِيَةِ، وإنَّما هي ألِفُ "هَذا" تُرِكَتْ في حالِ التَثْنِيَةِ، كَما نَقُولُ: "الَّذِي" ثُمْ في الجَمْعِ نَزِيدُ نُونًا وتُتْرَكُ الياءُ في حالِ النَصْبِ والرَفْعِ والخَفْضِ، وقالَ الزُجاجَ: في الكَلامِ ضَمِيرٌ تَقْدِيرُهِ: إنَّهُ هَذانِ لَساحِرانِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفِي هَذا التَأْوِيلِ دُخُولُ اللامِ في الخَبَرِ، وقالَ بَعْضُ النُحاةِ: ألِفُ "هَذانِ" مُشَبَّهَةٌ هُنا بِألِفِ تَفْعَلانِ، وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: لِما كانَ "هَذا" بِحالٍ واحِدَةٍ في رَفْعِهِ ونَصْبِهِ وخَفْضِهِ تُرِكَتْ تَثْنِيَتُهُ هُنا كَذَلِكَ. وقالَتْ جَماعَةٌ - مِنهم عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها - وأبُو عَمْرٍو -: هَذا مِمّا لَحَنَ الكاتِبُ فِيهِ وأُقِيمَ بِالصَوابِ وهو تَخْفِيفُ النُونِ مِن "إنْ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذِهِ الأقْوالُ مُعْتَرِضَةٌ، إلّا ما قِيلَ مِن أنَّها لُغَةٌ، و"إنْ" بِمَعْنى: أجَلْ ونَعَمْ، أوَ "إنْ" في الكَلامِ ضَمِيرٌ. وأمّا مِن قَرَأ: "إنْ" خَفِيفَةً، فَهي عن سِيبَوَيْهٍ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَقِيلَةِ ويَرْتَفِعُ بَعْدَها الِاسْمُ، ويَقُولُ الفِراءُ: هي بِمَعْنى "ما" واللامُ بِمَعْنى "إلّا" ووَجْهُ سائِرِ القِراءاتِ بَيِّنٌ. وعَبَّرَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَنِ "الطَرِيقَةِ" بِـ "السادَةِ"، وأنَّما يُرادُ أهْلُ العَقْلِ والسِنِّ والحِجى، وحُكِيَ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: "فَلانٌ طَرِيقَةُ قَوْمِهِ"، أيْ: سَيِّدُهُمْ، والأظْهَرُ في الطَرِيقَةِ هُنا أنَّها السِيرَةُ والمَمْلَكَةُ والحالُ الَّتِي هي عَلَيْها، و"المُثْلى" تَأْنِيثُ أمْثَلَ، أيِ: الفاضِلَةُ الحَسَنَةُ. وقَرَأ جُمْهُورُ القُرّاءِ: "فَأجْمَعُوا" بِقَطْعِ الألْفِ وكَسْرِ المِيمِ، عَلى مَعْنى: أعَزِمُوا، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وحْدَهُ: "فَأجْمِعُوا" مِن "جَمَّعَ"، أيْ: ضُمُّوا سِحْرَكم بَعْضَهُ إلى بَعْضٍ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: "ثُمْ" بِفَتْحِ المِيمِ "اِيتُوا" بِسُكُونِ الياءِ، وقَرَأ أيْضًا في رِوايَةِ شِبْلٍ عنهُ: "ثُمُ اِيتُوا" بِكَسْرِهِما، قالَ أبُو عَلِيٍّ: وهَذا غَلَطٌ، ولا وجْهَ لِكَسْرِ المِيمِ مِن "ثُمْ"، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "ثُمُ ائْتُوا" بِفَتْحِ المِيمِ وهَمْزَةٍ بَعْدَ الألْفِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿صَفًّا﴾ حالٌ، (p-١٠٩)أيْ: مُصْطَفِّينَ، وتَداعَوْا إلى هَذا لَأنَّهُ أهَيَبُ وأظْهَرُ لَهم. و"أفْلَحَ" مَعْناهُ: ظَفَرَ بِبُغْيَتِهِ، و"اسْتَعْلى": طَلَبَ العُلُوَّ في أمْرِهِ وسَعى سَعْيَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب