الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿قالَ ألْقِها يا مُوسى﴾ ﴿فَألْقاها فَإذا هي حَيَّةٌ تَسْعى﴾ ﴿قالَ خُذْها ولا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَها الأُولى﴾ ﴿واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِن غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى﴾ ﴿لِنُرِيَكَ مِن آياتِنا الكُبْرى﴾ ﴿اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ إنَّهُ طَغى﴾ ﴿قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ ﴿وَيَسِّرْ لِي أمْرِي﴾ ﴿واحْلُلْ عُقْدَةً مِن لِسانِي﴾ ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ ﴿واجْعَلْ لِي وزِيرًا مِن أهْلِي﴾ ﴿هارُونَ أخِي﴾ ﴿اشْدُدْ بِهِ أزْرِي﴾ ﴿وَأشْرِكْهُ في أمْرِي﴾ ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا﴾ ﴿وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ ﴿إنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيرًا﴾ لَمّا أرادَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى أنْ يُدَرِّبَهُ في تَلَقِّي النُبُوَّةِ وتَكالِيفِها أمَرَهُ بِإلْقاءِ العَصا، فَألْقاها مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ، فَقَلَبَ اللهُ أوصافَها وأغْراضَها، وكانَتْ عَصا ذاتَ شُعْبَتَيْنِ، فَصارَتِ الشُعْبَتانِ لَها فَمًا، وصارَتْ حَيَّةً تَسْعى، أيْ تَنْتَقِلُ وتَمْشِي وتَلْتَقِمُ الحِجارَةَ، فَلِمّا رَآها مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ رَأى عِبْرَةً فَوَلّى مُدَبِّرًا ولَمْ يُعَقِّبْ، فَقالَ اللهُ لَهُ: خُذْها ولا تَخَفْ، وذَلِكَ أنَّهُ أوجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً، أيْ لِحِقَهُ ما يَلْحَقُ البَشَرَ، ورُوِيَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ تَناوَلَها بِكُمَّيْ جُبَّتِهِ، فَنُهِيَ عن ذَلِكَ فَأخَذَها بِيَدِهِ فَصارَتْ عَصًا كَما كانَتْ أوَّلَ مَرَّةٍ، وهي سِيرَتُها الأُولى. ثُمْ أمَرَهُ اللهُ تَعالى أنْ يَضُمْ يَدَهُ إلى جَنْبِهِ، وهو الجَناحُ اسْتِعارَةً ومَجازًا، ومِنهُ قَوْلُ الراجِزِ:(p-٩٠) ؎ أضُمُّهُ لِلصَّدْرِ والجَناحِ وبَعْضُ الناسِ يَقُولُ: "الجَناحُ": اليَدُ. وهَذا كُلُّهُ صَحِيحٌ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ، ألّا تَرى أنَّ جَعْفَرَ بْنَ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهُ سُمِّيَ ذا الجَناحَيْنِ بِسَبَبِ يَدَيْهِ حِينَ أُقِيمَتْ لَهُ الجَناحانِ مَقامَ اليَدَيْنِ، شُبِّهَ بِجَناحِ الطائِرِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وكُلُّ مَرْعُوبٍ مِن ظُلْمَةٍ أو نَحْوَها فَإنَّهُ إذا ضَمَّ يَدَهُ إلى جَناحِهِ فَتَرَ رُعْبُهُ وجُمِعَ جَأْشُهُ، فَجَمَعَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ تَفْتِيرَ الرُعْبِ مَعَ الآيَةِ في اليَدِ. ورُوِيَ أنْ يَدَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ خَرَجَتْ بَيْضاءَ تَشُفُّ وتُضِيءُ كَأنَّها شَمْسٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن غَيْرِ سُوءٍ﴾ أيْ: مِن غَيْرِ بَرَصٍ ولا مُثْلَةٍ، بَلْ هو أمْرٌ يَنْحَسِرُ ويَعُودُ لِحُكْمِ الحاجَةِ إلَيْهِ، وقَوْلُهُ: ﴿لِنُرِيَكَ مِن آياتِنا الكُبْرى﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ وصْفَ الآياتِ بِالكُبَرِ عَلى ما تَقَدَّمَ مِن قَوْلِهِ: ﴿لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ [طه: ٨] و﴿مَآرِبُ أُخْرى﴾ [طه: ١٨] ونَحْوِهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ تَخْصِيصَ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بِأنَّهُما أكْبَرُ الآياتِ، كَأنَّهُ قالَ: لِنُرِيَكَ الكُبْرى مِن آياتِنا، فَهُما مَعْنَيانِ. ثُمْ أمَرَهُ تَبارَكَ وتَعالى بِالذَهابِ إلى فِرْعَوْنَ، وهو مُصْعَبُ بْنُ الرَيّانِ في بَعْضِ ما قِيلَ، وقِيلَ غَيْرُ هَذا، ولا صِحَّةَ لِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ. و"طَغى" مَعْناهُ: تَجاوَزَ الحَدَّ في فَسادٍ. (p-٩١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ الآيَةُ، لَمّا أمَرَهُ اللهُ تَعالى بِالذَهابِ إلى فِرْعَوْنَ عَلَمَ أنَّها الرِسالَةُ، وفَهِمْ قَدْرَ التَكْلِيفِ، فَدَعا اللهَ في المَعُونَةِ إذْ لا حَوْلَ لَهُ إلّا بِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ مَعْناهُ: لِفَهْمِ ما يَرِدُ عَلَيَّ مِنَ الأُمُورِ، و"العُقْدَةُ" الَّتِي دَعا في حَلِّها هي الَّتِي اعْتَرَتْهُ بِالجَمْرَةِ الَّتِي جَعَلَها في فَمِهِ حِينَ جَرَّبَهُ فِرْعَوْنُ، ورُوِيَ في ذَلِكَ أنَّ فِرْعَوْنَ أرادَ قَتْلَهُ وهو طِفْلٌ حِينَ مَدَّ يَدَهُ إلى لِحْيَةِ فِرْعَوْنَ، فَقالَتْ لَهُ امْرَأتُهُ: إنَّهُ لا يَعْقِلُ، فَقالَ: بَلى، هو يَعْقِلُ وهو عَدُوٌّ لِي، فَقالَتْ لَهُ: نُجَرِّبُهُ، قالَ: أفْعَلُ، فَدَعَتْ بِجَمَراتٍ مِن نارٍ وبِطَبَقٍ فِيهِ ياقُوتُ، فَقالَ: إنْ أخَذَ الياقُوتَ عِلْمَنا أنَّهُ يَعْقِلُ، وإنْ أخْذَ النارَ عَذَرْناهُ، فَمَدَّ مُوسى يَدَهُ إلى جَمْرَةٍ فَأخَذَها فَلَمْ تَعْدُ عَلى يَدِهِ فَجَعَلَها في فِيهِ فَأحْرَقَتْهُ وأورَثَتْ لِسانَهُ عُقْدَةً في كِبَرِهِ، أيْ حَبْسَةً مُلْبِسَةً في بَعْضِ الحُرُوفِ. قالَ ابْنُ الجَوْهَرِيِّ رَحِمَهُ اللهُ: كَفَّ اللهُ النارَ عن يَدِهِ لِئَلّا تَقُولُ النارُ: طَبْعِي، وأحْرَقَتْ لِسانَهُ لِئَلّا يَقُولَ مُوسى: مَكانَتِي، ومُوسى عَلَيْهِ السَلامُ إنَّما طَلَبَ مِن حَلِّ العُقْدَةِ قَدْرَ أنْ يَفْقَهَ قَوْلَهُ، فَجائِزًا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ زالَ، وجائِزًا أنْ يَكُونَ بَقِيَ مِنهُ القَلِيلُ، فَيَجْتَمِعُ أنْ يُؤْتى هو سُؤْلَهُ وأنْ يَقُولَ فِرْعَوْنُ: ﴿وَلا يَكادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢]، ولَوْ فَرَضْناهُ زالَ جُمْلَةً لَكانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ سَبًّا لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ لِحالَتِهِ القَدِيمَةِ. و"الوَزِيرُ": المُعِينُ القائِمْ بِوِزْرِ الأُمُورِ، وهو ثِقَلُها، ويُحْتَمَلُ الكَلامُ أنَّ طَلَبَ الوَزِيرِ مِن أهْلِهِ عَلى الجُمْلَةِ، ثُمْ أُبْدِلَ هارُونُ مِنَ الوَزِيرِ المَطْلُوبِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: واجْعَلْ هارُونَ وزِيرًا، فَإنَّما ابْتَدَأ الطَلَبَ فِيهِ، فَيَكُونُ - عَلى هَذا - مَفْعُولًا أوَّلًا بِـ "اجْعَلْ". وكانَ هارُونُ عَلَيْهِ السَلامُ أكْبَرَ مِن مُوسى بِأرْبَعَةِ أعْوامٍ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ: "أشْدُدُ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ و"أُشْرِكُهُ" بِضَمِّها عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أسْنَدَ هَذِهِ الأفْعالَ إلى نَفْسِهِ، ويَكُونُ الأمْرُ هُنا لا يُرِيدُ بِهِ النُبُوَّةَ بَلْ يُرِيدُ تَدْبِيرَهُ ومَساعِيهِ؛ لَأنَّ النُبُوَّةَ لا يَكُونُ لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أنْ يُشْرَكَ فِيها بَشَّرا، وقَرَأ الباقُونَ: "اُشْدُدْ" بِضَمِّ الهَمْزَةِ "وَأشْرِكْ" عَلى مَعْنى الدُعاءِ في شَدِّ الأزْرِ وتَشْرِيكِ هارُونَ عَلَيْهِ السَلامُ في النُبُوَّةِ، وهَذِهِ هي الوَجْهُ لَأنَّها تُناسِبُ ما تَقَدَّمَ مِنَ الدُعاءِ، وتَعْضُدُها آياتٌ غَيْرَ هَذِهِ تَقْتَضِي بِطَلَبِهِ تَصْدِيقَ هارُونَ إيّاهُ. و"الأزْرُ" بِمَعْنى الظَهْرُ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، كَأنَّهُ قالَ: شُدَّ بِهِ عَوْنِي، واجْعَلْهُ مُقاوِمِي فِيما أُحاوِلُهُ مِنَ الأُمُورِ، وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ:(p-٩٢) ؎ بِمَحْنِيَةٍ قَدْ آزَرَ الضالَّ نَبْتُها ∗∗∗ مَجَرِّ جُيُوشٍ غانِمِينَ وخُيَّبَ أيْ: قاوَمَهُ وصارَ في طُولِهِ. وفَتْحَ أبُو عَمْرٍو وابْنُ كَثِيرٍ الياءَ مِن "أخِي" وسَكَّنَها الباقُونَ، ورُوِيَ عن نافِعٍ "وَأشْرِكْهُو" بِزِيادَةِ واوٍ في اللَفْظِ بَعْدَ الهاءِ، ثُمْ جَعَلَ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ ما طَلَبَ مِن نِعَمِ اللهِ تَعالى سَبَبًا يَلْزَمُ كَثِيرَ العِبادَةِ والِاجْتِهادَ في أمْرِ اللهِ. وقَوْلُهُ: "كَثِيرًا" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: تَسْبِيحًا كَثِيرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب