الباحث القرآني

(p-٧٧)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ تَفْسِيرُ سُورَةِ طَهَ هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ وآياتُها خَمْسٌ وثَلاثُونَ ومِائَةٌ. قوله عزّ وجلّ: ﴿طه﴾ ﴿ما أنْزَلْنا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقى﴾ ﴿إلا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى﴾ ﴿تَنْزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسَماواتِ العُلا﴾ ﴿الرَحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ ﴿لَهُ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ وما بَيْنَهُما وما تَحْتَ الثَرى﴾ ﴿وَإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ السِرَّ وأخْفى﴾ ﴿اللهُ لا إلَهَ إلا هو لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى﴾ اخْتَلَفَ الناسُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿طه﴾ بِحَسَبِ اخْتِلافِهِمْ في كُلِّ الحُرُوفِ المُتَقَدِّمَةِ في أوائِلِ السُورِ، إلّا قَوْلُ مَن قالَ هُناكَ: إنَّ الحُرُوفَ إشارَةٌ إلى حُرُوفِ المُعْجَمِ، كَما تَقُولُ: "أ، ب، ج"، فَإنَّهُ لا يَتَرَتَّبُ ها هُنا؛ لَأنَّ ما بَعْدَ "طَهَ" مِنَ الكَلامِ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ خَبَرًا عن "طَهَ". واخْتَصَّتْ "طَهَ" بِأقْوالٍ لا تَتَرَتَّبُ في أوائِلِ السُوَرِ المَذْكُورَةِ، فَمِنها قَوْلُ مَن قالَ: "طَهَ" اسْمٌ مِن أسْماءِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقَوْلُ مَن قالَ: "طَهَ" مَعْناهُ: "يا رَجُلُ" بِالسُرْيانِيَّةِ وقِيلَ: بِغَيْرِها مِن لُغاتِ العَجَمِ، وحُكِيَ أنَّها لُغَةٌ يَمَنِيَّةٌ في عَكٍّ، وأنْشَدَ الطَبَرَيُّ في ذَلِكَ: ؎ دَعَوْتُ بِطَهَ في القِتالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتِ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مُوائِلًا (p-٧٨)وَيُرْوى: مُزايِلًا. وقالَ الآخَرُ: ؎ إنَّ السَفاهَةَ طَهَ مِن خَلائِقِكم ∗∗∗ لا بارَكَ اللهُ في القَوْمِ المَلاعِينِ وقالَتْ فِرْقَةٌ: سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ إنَّما هو ما كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَتَحَمَّلُهُ مِن مَشَقَّةِ الصَلاةِ حَتّى كانَتْ قَدَماهُ تَتَوَرَّمُ ويَحْتاجُ إلى التَرْوِيحِ، فَقِيلَ لَهُ: طا الأرْضَ، أيْ: لا تَتْعَبْ حَتّى تَحْتاجَ إلى التَرْوِيحِ، فالضَمِيرُ في "طَهَ" لِلْأرْضِ، وخُفِّفَتِ الهَمْزَةُ فَصارَتْ ألِفًا ساكِنَةً. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "طَهَ"، وأصْلُهُ: طَأْ، فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ وأُدْخِلَتْ هاءُ السَكْتِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ: "طَهَ" بِفَتْحِ الطاءِ والهاءِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عن قالُونَ عن نافِعٍ، ورَوى يَعْقُوبُ عنهُ كَسْرَها، ورُوِيَ عنهُ بَيْنَ بِالفَتْحِ والكَسْرِ، وأمالَتْ فِرْقَةٌ، وفَخَّمَتْ فَرِقَّةٌ، والتَفْخِيمُ لُغَةُ الحِجازِ والنَبِيِّ ﷺ، وقَرَأ عاصِمْ، وحَمْزَةٌ، والكِسائِيُّ: "طَهَ" بِكَسْرِ الطاءِ والهاءِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: "طَهَ" بِفَتْحِ الطاءِ وكَسْرِ الهاءِ، ورُوِيَ عَنِ الضِحاكِ وعَمْرِو بْنِ فائِدٍ أنَّهُما قَرَآ: "طاوِي". وقَوْلُهُ تَعالى: "لِتَشْقى" مَعْناهُ التَبَلُّغُ مِن نَفْسِكَ في العِبادَةِ والقِيامِ في الصَلاةِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما سَبَبُ الآيَةِ أنَّ / قُرَيْشًا نَظَرَتْ إلى عَيْشِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وشَظَفِهِ وكَثْرَةِ عِيالِهِ، فَقالَتْ: إنَّ مُحَمَّدًا مَعَ رَبِّهِ في شَقاءٍ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ رادَّةً عَلَيْهِمْ، أيْ: إنَّ اللهَ تَعالى لَمْ يُنْزِلِ القُرْآنَ لِيَجْعَلَ مُحَمَّدًا شَقِيًّا، بَلْ لِيَجْعَلَهُ أسْعَدُ بَنِي آدَمَ في النَعِيمِ المُقِيمِ في أعْلى المَراتِبِ، فالشَقاءُ الَّذِي رَأيْتُمْ هو تَنَعُّمُ النَفْسِ، ولا شَقاءَ مَعَ ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: (p-٧٩)فَهَذا التَأْوِيلُ أعَمُّ مِنَ الأوَّلِ في لَفْظَةِ الشَقاءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشى﴾ يَصِحُّ أنْ يُنْصَبَ عَلى البَدَلِ مِن مَوْضِعِ ﴿لِتَشْقى﴾، ويَصِحُّ أنْ يُنْصَبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: لَكِنْ أنْزَلْناهُ تَذْكِرَةً. و"يَخْشى" يَتَضَمَّنُ الإيمانَ والعَمَلَ الصالِحَ؛ إذِ الخَشْيَةُ باعِثَةٌ عَلى ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿تَنْزِيلا﴾ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، وقَوْلُهُ: ﴿مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسَماواتِ العُلا﴾ صِفَةٌ أقامَها مَقامَ المَوْصُوفِ، وأفادَ ذَلِكَ العِبْرَةَ والتَذْكِرَةَ وتَحْقِيرَ الأوثانِ وبَعْثَ النُفُوسِ عَلى النَظَرِ. و"العُلى" جَمْعُ عُلْيا، فُعْلى. وقَوْلُهُ: ﴿الرَحْمَنُ﴾ رُفِعَ بِالِابْتِداءِ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَمِيرِ المُسْتَقِرِّ في "خَلَقَ". وقَوْلُهُ: ﴿اسْتَوى﴾ قالَتْ فِرْقَةٌ: هو بِمَعْنى: اسْتَوْلى، وقالَ أبُو المَعالِي وغَيْرُهُ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ: هو بِمَعْنى اسْتِواءُ القَهْرِ والغَلَبَةِ، وقالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: فَعَلَ فِعْلًا في العَرْشِ سَمّاهُ اسْتِواءً، وقالَ الشَعْبِيُّ وجَماعَةٌ غَيْرِهِ: هَذا مِن مُتَشابِهِ القُرْآنِ، نُؤْمِنُ بِهِ ولا نَعْرِضُ لِمَعْناهُ، وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ لِرَجُلٍ سَألَهُ عن هَذا الِاسْتِواءِ، فَقالَ لَهُ مالِكٌ: الِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةٌ، والسُؤالُ عن هَذا بِدَعَةٌ، وأظُنُّكَ رَجُلَ سُوءٍ، أخْرَجُوهُ عَنِّي، فَأدْبَرَ السائِلُ وهو يَقُولُ: يا أبا عَبْدِ اللهِ، لَقَدْ سَألَتُ عنها أهْلَ الشامِ وأهْلَ العِراقِ فَما وُفِّقَ فِيها أحَدٌ تَوْفِيقَكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وضَعَّفَ أبُو المَعالِي قَوْلَ مَن قالَ: لا يُتَكَلَّمُ في تَفْسِيرِها، فَإنْ قالَ: إنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ يُجْمِعُ عَلى أنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِواءِ لَيْسَتْ عَلى عُرْفِها في مَعْهُودِ الكَلامِ العَزِيزِ، فَإذا فَعَلَ هَذا فَقَدَ فَسَّرَ ضَرُورَةً ولا فائِدَةَ في تَأخُّرِهِ عن طَلَبِ الوَجْهِ والمَخْرَجِ البَيِّنِ، بَلْ في ذَلِكَ إلْباسٌ عَلى الناسِ، وإيهامٌ لِلْعَوّامِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في مَسْألَةِ الِاسْتِواءِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ ما في السَماواتِ وما في الأرْضِ﴾ تَمادٍ في الصِفَةِ المَذْكُورَةِ المُنَبِّهَةِ عَلى الخالِقِ المُنْعِمْ، وفي قَوْلِهِ: ﴿وَما تَحْتَ الثَرى﴾ قَصَصٌ في أمْرِ الحُوتِ ونَحْوِهِ اخْتَصَرْتُهُ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ، والآيَةُ مُضَمَّنَةٌ أنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُحْدَثٍ فَهو لِلَّهِ بِالمِلْكِ والِاخْتِراعِ، ولا قَدِيمَ سِواهُ تَعالى. و"الثَرى" التُرابُ النَدِيُّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ﴾ الآيَةُ، مَعْناهُ: وإنْ كُنْتُمْ أيُّها الناسُ إذا أرَدْتُمْ إعْلامَ (p-٨٠)أحَدٍ بِأمْرٍ، أو مُخاطَبَةَ أوثانِكم وغَيْرِها، فَأنْتُمْ تَجْهَرُونَ بِالقَوْلِ، فَإنَّ اللهَ الَّذِي هَذِهِ صِفاتُهُ يَعْلَمُ السِرَّ وأخْفى، فالمُخاطَبَةُ بِـ "تَجْهَرْ" لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وهي مُرادٌ بِها جَمِيعُ الناسِ إذْ هي آيَةُ اعْتِبارٍ. واخْتَلَفَ الناسُ في تَرْتِيبِ السِرِّ وما هو أخْفى مِنهُ - فَقالَتْ فِرْقَةٌ: السِرُّ هو الكَلامُ الخَفِيُّ الخافِتُ كَقِراءَةِ السِرِّ في الصَلاةِ، و الأخْفى ما هو في النَفْسِ مُتَحَصِّلٌ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: السِرُّ هو ما في نُفُوسِ البَشَرِ وكُلُّ ما يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ فِيها في المُسْتَأْنِفِ بِحَسْبِ المُمْكِناتِ مِن مَعْلُوماتِ البَشَرِ، والأخْفى ما هو مِن مَعْلُوماتِ اللهِ تَعالى، ولا يُمْكِنُ أنْ يَعْلَمَهُ البَشَرُ البَتَّةَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَهَذا كُلُّهُ مَعْلُومٌ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَدْ تُؤَوَّلُ عَلى بَعْضِ السَلَفِ أنَّهُ جَعَلَ "وَأخْفى" فِعْلًا ماضِيًا، وهَذا ضَعِيفٌ. و " الأسْماءُ الحُسْنى " يُرِيدُ بِها المُسَمَّياتِ الَّتِي تَضَمَّنَتِ المَعانِيَ الَّتِي هي في غايَةِ الحَسَنِ، ووَحَّدَ الصِفَةَ مَعَ جَمْعِ المَوْصُوفِ لِما كانَتِ المُسَمَّياتُ لا تَعْقِلُ، وهَذا جارٍ مَجْرى ﴿مَآرِبُ أُخْرى﴾ [طه: ١٨]، و﴿يا جِبالُ أوِّبِي﴾ [سبإ: ١٠] وغَيْرُهُ، وذِكْرَ أهْلُ العِلْمِ أنَّ هَذِهِ الأسْماءَ هي الَّتِي قالَ فِيها رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إلّا واحِدًا، مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب