الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهم زَهْرَةَ الحَياةِ الدُنْيا لِنَفْتِنَهم فِيهِ ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبْقى﴾ ﴿وَأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْألُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقِبَةُ لِلتَّقْوى﴾ ﴿وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِن رَبِّهِ أوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما في الصُحُفِ الأُولى﴾ قالَ بَعْضُ الناسِ: سَبَبُ هَذِهِ الآيَةِ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَبَعَثَ إلى يَهُودِيٍّ لِيُسْلِفَهُ شَعِيرًا، فَأبى اليَهُودِيُّ إلّا بِرَهْنٍ، فَبَلَّغَ الرَسُولُ ذَلِكَ النَبِيَّ ﷺ فَقالَ: «واللهِ إنِّي لِأمِينٌ في السَماءِ وأمِينٌ في الأرْضِ»، فَرَهَنَهُ دِرْعَهُ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مُعْتَرَضٌ أنْ يَكُونَ سَبَبًا؛ لِأنَّ السُورَةَ مَكِّيَّةٌ والقِصَّةَ المَذْكُورَةَ مَدَنِيَّةٌ في آخِرِ عُمْرِ النَبِيِّ ﷺ، لِأنَّهُ ماتَ ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ بِهَذِهِ القِصَّةِ الَّتِي ذُكِرَتْ، وإنَّما الظاهِرُ أنَّ الآيَةَ مُتَناسِقَةٌ مَعَ ما قَبْلَها، وذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى وبَّخَهم عَلى تَرْكِ الِاعْتِبارِ بِالأُمَمِ السابِقَةِ، ثُمْ تَوَعَّدَهم بِالعَذابِ المُؤَجَّلِ، ثُمْ أمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ بِالِاحْتِقارِ لِشَأْنِهِمْ والصَبْرِ عَلى أقْوالِهِمْ والإعْراضِ عن أمْوالِهِمْ وما في أيْدِيهِمْ مِنَ الدُنْيا؛ إذْ ذَلِكَ مُنْصَرِمْ عنهُمْ، صائِرٌ بِهِمْ إلى خِزْيٍ. (p-١٤٧)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ أبْلَغُ مِن "وَلا تَنْظُرُ"، لِأنَّ الَّذِي يَمُدُّ بَصَرَهُ إنَّما يَحْمِلُهُ عَلى ذَلِكَ حِرْصٌ مُقْتَرِنٌ، والَّذِي يَنْظُرُ قَدْ لا يَكُونُ ذَلِكَ مَعَهُ، و"الأزْواجُ": الأنْواعُ، فَكَأنَّهُ قالَ: إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أقْوامًا مِنهم وأصْنافًا، وقَوْلُهُ: ﴿زَهْرَةَ الحَياةِ الدُنْيا﴾ شَبَّهَ نِعَمَ هَؤُلاءِ الكُفّارِ بِالزَهْرِ، وهو ما اصْفَرَّ مِنَ النُورِ، وقِيلَ: الزَهْرُ: النُورُ جُمْلَةٌ؛ لِأنَّ الزَهْرَ لَهُ مَنظَرٌ ثُمْ يَضْمَحِلُّ، فَكَذَلِكَ حالُ هَؤُلاءِ، ونَصْبُ "زَهْرَةَ" يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: جَعَلْناهُ زَهْرَةً، ويَجُوزُ أنْ يُنْصَبَ عَلى الحالِ، وذَلِكَ أنَّ تَعْرِيفَها لَيْسَ بِمَحْضٍ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "زَهْرَةً" بِالتَنْوِينِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "زَهْرَةَ" بِالهاءِ مُسَكَّنَةً، وفِرْقَةٌ: "زَهَرَةَ" بِفَتْحِ الهاءِ. ثُمْ أخْبَرَ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ أنَّ ذَلِكَ إنَّما هو لِيَخْتَبِرَهم بِهِ، ويَجْعَلَهُ فِتْنَةً لَهم وأمْرًا يُجازَوْنَ عَلَيْهِ بِالسُوءِ لِفَسادِ تَقَلُّبِهِمْ فِيهِ، ورِزْقُ اللهِ تَعالى الَّذِي أحَلَّهُ لِلْمُتَّقِينَ مِن عِبادِهِ خَيْرٌ وأبْقى، أيْ: ورِزْقُ الدُنْيا خَيْرٌ، ورِزْقُ الآخِرَةِ أبْقى، وبَيَّنَ أنَّهُ خَيْرٌ مِن رِزْقِ الدُنْيا. ثُمْ أمَرَهُ تَبارَكَ وتَعالى بِأنْ يَأْمُرَ أهْلَهُ بِالصَلاةِ ويَمْتَثِلَها مَعَهم ويَصْطَبِرَ عَلَيْها ويُلازِمَها، وتَكَفَّلَ هو بِرِزْقِهِ، لا إلَهَ إلّا هُوَ، وأخْبَرَهُ أنَّ العاقِبَةَ لِأُولى التَقْوى وفي حَيِّزِها، فَثَمَّ نَصْرُ اللهِ في الدُنْيا ورَحْمَتُهُ في الآخِرَةِ، وهَذا الخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، ويَدْخُلُ في عُمُومِهِ جَمِيعُ أُمَّتِهِ، ورُوِيَ أنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ كانَ إذا رَأى شَيْئًا مِن أخْبارِ السَلاطِينِ وأحْوالِهِمْ بادَرَ إلى مَنزِلِهِ فَدَخَلَهُ وهو يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهم زَهْرَةَ الحَياةِ الدُنْيا لِنَفْتِنَهم فِيهِ ورِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبْقى﴾، ثُمْ يُنادِي: الصَلاةَ الصَلاةَ يَرْحَمُكُمُ اللهُ، ويُصَلِّي، وكانَ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ (p-١٤٨)يُوقِظُ أهْلَ دارِهِ لِصَلاةِ اللَيْلِ ويُصَلِّي ويَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الآيَةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "نَحْنُ نَرْزُقُكَ" بِضَمِّ القافِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "نَحْنُ نَرْزُقْكَ" بِسُكُونِها. ثُمْ أخْبَرَ تَعالى عن طَوائِفَ مِنَ الكُفّارِ قالُوا عن مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ أيْ بِعَلامَةٍ مِمّا اقْتَرَحْناها عَلَيْهِ، أو بِما يُبْهِرُ ويَضْطَرُّ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ورُسُلُ اللهِ تَعالى إنَّما اقْتَرَنَتْ مَعَهم آياتٌ مُعَرَّضَةٌ لِلنَّظَرِ، مَحْفُوفَةٌ بِالبَراهِينِ العَقْلِيَّةِ، لِيَضِلَّ مَن سَبَقَ في عِلْمِ اللهِ ضَلالُهُ، ويَهْتَدِي مَن سَبَقَ في هُداهُ، فَوَبَّخَهُمُ اللهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما في الصُحُفِ الأُولى﴾ يَعْنِي التَوْراةَ، أعْظَمَ شاهِدٍ وأكْبَرَ آيَةٍ لَهُ. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَفَصٌ عن عاصِمْ: "تَأْتِهِمْ" عَلى لَفْظَةٍ "بَيِّنَةٍ"، وقَرَأ الباقُونَ وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمْ: "يَأْتِهِمْ" بِالياءِ عَلى المَعْنى، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بَيِّنَةُ ما في الصُحُفِ" بِالإضافَةِ إلى "ما"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بَيِّنَةٌ" بِالتَنْوِينِ، و"ما" بَدَلٌ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بَيِّنَةَ ما" بِالنَصْبِ، و"ما" عَلى هَذِهِ القِراءَةِ - فاعِلَةٌ بِـ "تَأْتِي"، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فِي الصُحُفِ" بِضَمِّ الحاءِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "فِي الصُحْفِ" بِسُكُونِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب