الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَن أسْرَفَ ولَمْ يُؤْمِن بِآياتِ رَبِّهِ ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ ﴿أفَلَمْ يَهْدِ لَهم كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهم مِنَ القُرُونِ يَمْشُونَ في مَساكِنِهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُهى﴾ ﴿وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَبِّكَ لَكانَ لِزامًا وأجَلٌ مُسَمًّى﴾ ﴿فاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِها ومِن آناءِ اللَيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النَهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى﴾
المَعْنى: وكَما وصَفْنا مِن ألِيمِ الأفْعالِ نَجْزِي المُسْرِفِينَ المُتَعَدِّينَ الكُفّارَ بِاللهِ عَزَّ وجَلَّ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وَلَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقى﴾ إنْ كانَتْ مَعِيشَةُ الضَنْكِ في الدُنْيا أو في البَرْزَخِ فَجاءَ هَذا وعِيدًا بِعَذابِ الآخِرَةِ بَعْدَ وعِيدٍ، وإنْ كانَتِ المَعِيشَةُ "الضَنْكُ" في الآخِرَةِ فَأكَّدَ الوَعِيدُ بِعَيْنِهِ هَذا القَوْلَ الَّذِي جَعَلَ بِهِ عَذابَ الآخِرَةِ فَوْقَ كُلِّ عَذابٍ يَتَخَيَّلُهُ الإنْسانُ أو يَقَعُ في الدُنْيا.
ثُمُ ابْتَدَأ يُوَبِّخُهم ويَذَكِّرُهُمُ العِبَرَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يَهْدِ" بِالياءِ بِمَعْنى: يَتَبَيَّنُ، واخْتَلَفَتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ في الفاعِلِ فَقالَ بَعْضُهُمُ: الفاعِلُ "كَمْ"، وهَذا قَوْلٌ كُوفِيٌّ، ونُحاةُ البَصْرَةِ لا يُجِيزُونَهُ؛ لِأنَّ "كَمْ" لَها صَدْرُ الكَلامِ، وفي قِراءَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "أفَلَمْ يَهْدِ لَهم مَن أهْلَكْنا"، فَكَأنَّ هَذِهِ القِراءَةَ تُناسِبُ ذَلِكَ التَأْوِيلَ في "كَمْ"، وقالَ بَعْضُهُمُ: الفاعِلُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، والمَعْنى: أفَلَمْ يَهْدِ لَهم ما جَعَلَ اللهُ لَهم مِنَ الآياتِ والعِبَرِ، فَأضافَ الفِعْلَ إلى اللهِ تَعالى بِهَذا الوَجْهِ: قالَهُ الزَجّاجُ. وقالَ بَعْضُهُمُ: الفاعِلُ مُقَدَّرٌ، الهُدى أوِ الأمْرُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
أوِ النَظَرُ والِاعْتِبارُ، هَذا أحْسَنُ ما يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدِي.
(p-١٤٤)وَقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "نَهْدِ" بِالنُونِ، وهَذِهِ القِراءَةُ تُناسِبُ تَأْوِيلَ مَن قالَ في الَّتِي قَبِلَها: الفاعِلُ اللهُ، و"كَمْ" - عَلى هَذِهِ الأقْوالِ - نُصِبَ بِـ "أهْلَكْنا". ثُمْ قَيَّدَ "القُرُونَ" بِأنَّهم يَمْشِي هَؤُلاءِ الكَفَرَةُ في مَساكِنِهِمْ، فَإنَّما أرادَ عادًا وثَمُودَ والطَوائِفَ الَّتِي كانَتْ قُرَيْشٌ تَجُوزُ عَلى بِلادِهِمْ في المُرُورِ إلى الشامِ وغَيْرِهِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يَمْشُونَ" بِفَتْحِ الياءِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "يُمَشَّوْنَ" بِضَمِّ الياءِ وفَتْحِ المِيمِ وشَدِّ الشِينِ. و"النُهى" جَمْعُ نُهْيَةٍ، وهو ما يَنْهى الإنْسانَ عن فِعْلِ القَبِيحِ.
ثُمْ أعْلَمَ عَزَّ وجَلَّ أنَّ العَذابَ كانَ يَصِيرُ لَهم لِزامًا لَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ في تَأْخِيرِهِ عنهم إلى أجَلٍ مُسَمًّى عِنْدَهُ، فَتَقْدِيرُ الكَلامِ: ولَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ في التَأْخِيرِ لِأجَلٍ مُسَمًّى لَكانَ العَذابُ لِزامًا، كَما تَقُولُ: لَكانَ حَتْمًا أو واجِبًا واقِعًا، لَكِنَّهُ قَدَّمَ وأخَّرَ لِتَتَشابَهَ رُؤُوسُ الآيِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في الأجَلِ -فَيُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ يَوْمَ القِيامَةِ. والعَذابُ المُتَوَعَّدُ بِهِ - عَلى هَذا - هو عَذابُ جَهَنَّمَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالأجَلِ مَوْتَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم. فالعَذابُ - عَلى هَذا - ما يَلْقى في قَبْرِهِ وما بَعْدَهُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالأجِلِ يَوْمَ بَدْرٍ. فالعَذابُ - عَلى هَذا - هو قَتْلُهم بِالسَيْفِ، وبِكُلِّ احْتِمالٍ مِمّا ذَكَرْناهُ قالَتْ فِرْقَةٌ، وفي صَحِيحِ البُخارِيِّ أنْ يَوْمَ بَدْرٍ هو اللِزامُ، وهو البَطْشَةُ الكُبْرى.
ثُمْ أمَرَهُ تَبارَكَ وتَعالى بِالصَبْرِ عَلى أقْوالِهِمْ: إنَّهُ ساحِرٌ، وإنَّهُ كاهِنٌ، وإنَّهُ كَذّابٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، والمَعْنى: لا تَحْفُلُ بِهِمْ فَإنَّهم مُدْرِكَةُ المُهْلِكَةِ. وكَوْنُ اللِزامِ يَوْمَ بَدْرٍ أبْلَغُ في آياتِ نَبِيِّنا ﷺ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾، قالَ أكْثَرُ المُتَأوِّلِينَ: هَذِهِ إشارَةٌ إلى الصَلَواتِ الخَمْسِ: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ﴾: صَلاةُ الصُبْحِ، ﴿وَقَبْلَ غُرُوبِها﴾: صَلاةُ العَصْرِ، ﴿وَمِن آناءِ اللَيْلِ﴾: العَتَمَةُ، ﴿وَأطْرافَ النَهارِ﴾: المَغْرِبُ والظَهْرُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: ﴿آناءِ اللَيْلِ﴾: المَغْرِبُ والعَشاءُ، و" أطْرافَ النَهارِ ": الظَهْرُ وحْدَها، ويَحْتَمِلُ اللَفْظُ أنْ (p-١٤٥)يُرادَ قَوْلُ: "سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِهِ" مِن بَعْدِ صَلاةِ الصُبْحِ إلى رَكْعَتِي الضُحى، وقَبْلَ غُرُوبِ الشَمْسِ؛ فَقَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن سَبَّحَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَمْسِ تَسْبِيحَةً غَرَبَتْ بِذُنُوبِهِ».
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وسَمّى الطَرَفَيْنِ أطْرافًا عَلى أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤]، وإمّا عَلى أنْ يَجْعَلَ النَهارَ لِلْجِنْسِ فَلِكُلِّ يَوْمٍ طَرَفٌ، وهي الَّتِي جَمَعَ. وأمّا مَن قالَ: " أطْرافَ النَهارِ " لِصَلاةِ الظُهْرِ وحْدَها فَلا بُدَّ لَهُ مِن أنْ يَتَمَسَّكَ بِأنْ يَكُونَ النَهارُ لِلْجِنْسِ كَما قُلْنا، أو يَقُولَ: إنَّ النَهارَ يَنْقَسِمْ قِسْمَيْنِ فَصَلَهُما الزَوالُ، ولِكُلِّ قِسْمٍ طَرَفانِ، فَعِنْدَ الزَوالِ طَرَفانِ، الآخَرُ مِنَ القَسَمِ الأوَّلِ، والأوَّلُ مِنَ القَسَمِ الآخَرِ، فَقالَ عَنِ الطَرَفَيْنِ: أطْرافًا عَلى نَحْوِ ﴿فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما﴾ [التحريم: ٤]، وأشارَ إلى هَذا النَظَرِ أبُو بَكْرٍ بْنُ فَوْرَكٍ في "المُشْكِلِ".
و"الآناءُ" جَمْعُ "إنى" وهي الساعَةُ مِنَ اللَيْلِ، ومِنهُ قَوْلُ الهُذَلِيُّ:
؎ لْوٌ ومُرٌّ كَعَطْفِ القَدَحِ مَرَّتْهُ في كُلِّ إنى قُضاةُ اللَيْلِ يَنْتَعِلُ
(p-١٤٦)وَقالَتْ فِرْقَةٌ: الآيَةُ إشارَةٌ إلى نَوافِلَ، فَمِنها آناءُ اللَيْلِ، ومِنها قَبْلَ طُلُوعِ الشَمْسِ، ورَكْعَتا الفَجْرِ والمَغْرِبِ أطْرافُ النَهارِ، وقَرَأ الجُمْهُورُ: "لَعَلَّكَ تَرْضى" بِفَتْحِ التاءِ، أيْ: لَعَلَّكَ تُثابُ عَلى هَذِهِ الأعْمالِ بِما تَرْضى بِهِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عن عاصِمْ: "لَعَلَّكَ تَرْضى"، أيْ: لَعَلَّكَ تُعْطى ما يُرْضِيكَ.
{"ayahs_start":127,"ayahs":["وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی مَنۡ أَسۡرَفَ وَلَمۡ یُؤۡمِنۢ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِۦۚ وَلَعَذَابُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبۡقَىٰۤ","أَفَلَمۡ یَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ یَمۡشُونَ فِی مَسَـٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلنُّهَىٰ","وَلَوۡلَا كَلِمَةࣱ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامࣰا وَأَجَلࣱ مُّسَمࣰّى","فَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَاۖ وَمِنۡ ءَانَاۤىِٕ ٱلَّیۡلِ فَسَبِّحۡ وَأَطۡرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرۡضَىٰ"],"ayah":"أَفَلَمۡ یَهۡدِ لَهُمۡ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا قَبۡلَهُم مِّنَ ٱلۡقُرُونِ یَمۡشُونَ فِی مَسَـٰكِنِهِمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّأُو۟لِی ٱلنُّهَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق