الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَهَلْ أتاكَ حَدِيثُ مُوسى﴾ ﴿إذْ رَأى نارًا فَقالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نارًا لَعَلِّي آتِيكم مِنها بِقَبَسٍ أو أجِدُ عَلى النارِ هُدًى﴾ ﴿فَلَمّا أتاها نُودِيَ يا مُوسى﴾ ﴿إنِّي أنا رَبُّكَ فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالوادِ المُقَدَّسِ طُوًى﴾ ﴿وَأنا اخْتَرْتُكَ فاسْتَمِعْ لِما يُوحى﴾ ﴿إنَّنِي أنا اللهُ لا إلَهَ إلا أنا فاعْبُدْنِي وأقِمِ الصَلاةَ لِذِكْرِي﴾ هَذا الِاسْتِفْهامُ هو تَوْقِيفٌ مُضْمَنُهُ تَنْبِيهُ النَفْسِ إلى ما يُورَدُ عَلَيْها، وهَذا كَما تَبْدَأُ (p-٨١)الرَجُلَ إذا أرَدْتَ إخْبارَهُ بِأمْرٍ غَرِيبٍ فَتَقُولُ: أعَلِمْتَ كَذا وكَذا؟ ثُمْ تَبْدَأُ تُخْبِرُهُ، والعامِلُ في "إذْ" ما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿حَدِيثُ مُوسى﴾ مِن مَعْنى الفِعْلِ، وتَقْدِيرِهِ: وهَلْ أتاكَ ما فَعَلَ مُوسى إذْ رَأى نارًا، ونَحْوَ. هَذا، وكانَ مِن قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أنَّهُ رَحَلَ مِن مَدْيَنَ بِأهْلِهِ بِنْتِ شُعَيْبٍ وهو يُرِيدُ أرْضَ مِصْرَ، وقَدْ طالَتْ مُدَّةُ جِنايَتُهُ هُنالِكَ، فَرَجا خَفاءَ أمْرِهِ، وكانَ - فِيما يَزْعُمُونَ - رَجُلًا غَيُورًا، فَكانَ يَسِيرُ اللَيْلَ بِأهْلِهِ ولا يَسِيرُ النَهارَ مَخافَةَ كَشَفَةِ الناسِ، فَضَلَّ عن طَرِيقِهِ في لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ نَدِيَّةٍ، ويُرْوى أنَّهُ فَقَدَ الماءَ فَلَمْ يَدْرِ أيْنَ يَطْلُبُهُ، فَبَيْنَما هو كَذَلِكَ - وقَدْ قَدَحَ زَنْدُهُ فَلَمْ يُورِ شَيْئًا - إذْ رَأى نارًا، فَقالَ لِأهْلِهِ: امْكُثُوا، أيْ أقِيمُوا، وذَهَبَ هو إلى النارِ فَإذا هي مُضْطَرِمَةٌ في شَجَرَةٍ خَضْراءَ يانِعَةٍ، قِيلَ: كانَتْ مِن عُنّابٍ، وقِيلَ: مِن عَوْسَجٍ، وقِيلَ: مِن عُلَيْقَةٍ، فَلَمّا دَنا مِنها تَباعَدَتْ مِنهُ ومَشَتْ، فَإذا رَجَعَ عنها اتَّبَعَتْهُ، فَلَمّا رَأى ذَلِكَ أيْقَنَ أنَّ هَذا أمْرٌ مِن أُمُورِ اللهِ تَعالى الخارِقَةِ لِلْعادَةِ، ونُودِيَ وانْقَضى أمْرُهُ في تِلْكَ اللَيْلَةِ، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وهو الحَقُّ، وحَكى النِقاشُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ أقامَ في ذَلِكَ الأمْرِ حَوَّلًا، ومَكَثَ أهْلُهُ، قالُوا: وهَذا أمْرٌ غَيْرُ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما وضَعِيفٌ في نَفْسِهِ. و"آنَسْتُ" مَعْناهُ: أحْسَسْتُ، ومِنهُ قَوْلُ الحارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: ؎ آنَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَها القَنْـ ناصُ عَصْرًا وقَدْ دَنا الإمْساءُ والنارُ عَلى البُعْدِ لا تُحَسُّ إلّا بِالبَصَرِ، ولِذَلِكَ فَسَّرَ بَعْضُهُمُ اللَفْظَ بِـ "رَأيْتُ"، و"آنَسَ" أعَمُّ مَن رَأى لَأنَّكَ تَقُولُ: آنَسْتُ مِن فُلانٍ خَيْرًا أو شَرًّا. و"القَبَسُ": الجَذْوَةُ مِنَ النارِ عَلى رَأْسِ العُودِ أوِ القَصَبَةِ أو نَحْوَهُ، و"الهُدى" أرادَ الطَرِيقَ، أيْ: لَعَلِّي أجِدُ ذا هُدًى مُرْشِدًا لِي أو دَلِيلًا وإنْ لَمْ يَكُنْ فَخَبَرًا، و"الهُدى" يَعُمْ هَذا كُلَّهُ، وإنَّما رَجا مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ هُدى نازِلَتَهُ فَصادَفَ الهُدى عَلى الإطْلاقِ. (p-٨٢)وَفِي ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ بِأسْرِها في هَذِهِ السُورَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ عَمّا لَقِيَ في تَبْلِيغِهِ مِنَ المَشَقّاتِ وكُفْرِ الناسِ، فَإنَّما هي لَهُ عَلى جِهَةِ التَمْثِيلِ في أمْرِهِ، ورُوِيَ عن نافِعٍ وحَمْزَةَ "فَقالَ لِأهْلِهِ امْكُثُوا" بِضَمِّ الهاءِ، وكَذَلِكَ في القَصَصِ، وكَسَرَ الباقُونَ الهاءَ فِيهِما. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا أتاها﴾، الضَمِيرُ عائِدٌ عَلى النارِ، وقَوْلُهُ: ﴿نُودِيَ﴾ كِنايَةٌ عن تَكْلِيمِ اللهِ لَهُ، وفي "نُودِيَ" ضَمِيرٌ يَقُومُ مَقامَ الفاعِلِ، وإنْ شِئْتَ جَعَلَتْهُ مُوسى إذْ قَدْ جَرى ذِكْرُهُ، وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمْ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "إنِّي" بِكَسْرِ الألْفِ عَلى الِابْتِداءِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "أنِّي" بِفَتْحِ الألْفِ عَلى مَعْنى: لِأجْلِ أنِّي أنا رَبُّكَ فاخْلَعْ نَعْلَيْكَ. و"نُودِيَ" قَدْ تُوصَلُ بِحَرْفِ الجَرِّ، وأنْشَدَ أبُو عَلِيٍّ: ؎ نادَيْتُ بِاسْمِ رَبِيعَةَ بْنِ مُكَدَّمٍ ∗∗∗ إنَّ المُنَوَّهَ بِاسْمِهِ المَوْثُوقُ واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في السَبَبِ الَّذِي مِن أجْلِهِ أمْرَ بِخَلْعِ النَعْلَيْنِ - فَقالَتْ فِرْقَةٌ: كانَتا مِن جِلْدِ حِمارٍ مَيِّتٍ، فَأُمِرَ بِطَرْحِ النَجاسَةِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ كانَتْ نَعْلاهُ مِن جِلْدِ بَقَرَةٍ ذَكِيٍّ، ولَكِنْ أُمِرَ بِخَلْعِها لِيَنالَ بِرَكَةَ الوادِي المُقَدَّسِ وتَمَسَّ قَدَماهُ تُرْبَةَ الوادِي. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وتَحْتَمِلُ الآيَةُ مَعْنى آخَرَ هو الألْيَقُ بِها عِنْدِي، وذَلِكَ أنَّ اللهَ تَعالى أمْرَهُ أنْ يَتَواضَعَ لِعَظِيمِ الحالِ الَّتِي حَصَلَ فِيها، والعُرْفُ عِنْدَ المُلُوكِ أنْ تَخْلَعَ النَعْلانِ ويَبْلُغَ الإنْسانُ إلى غايَةِ تَواضُعِهِ، فَكَأنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَلامُ أُمِرَ بِذَلِكَ عَلى هَذا الوَجْهِ، ولا تُبالِي كانَتْ نَعْلاهُ مِن مَيْتَةٍ أو غَيْرِها. (p-٨٣)وَ ﴿المُقَدَّسِ﴾ مَعْناهُ: المُطَهَّرُ، و ﴿طُوًى﴾ مَعْناهُ: مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، فَقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: قَدِّسْ مَرَّتَيْنِ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: مَعْناهُ: طَوَيْتُهُ أنْتَ، أيْ سِرْتَ بِهِ، أيْ طُوِيَتْ لَكَ الأرْضُ مَرَّتَيْنِ مِن ظَنِّكِ. وقَرَأ عاصِمْ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "طَوًى" بِالتَنْوِينِ عَلى أنَّهُ اسْمُ المَكانِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "طَوى" عَلى أنَّهُ اسْمُ البُقْعَةِ، بِدُونِ تَنْوِينٍ، وقَرَأ هَؤُلاءِ كُلُّهم بِضَمِّ الطاءِ، وقَرَأ أبُو زَيْدٍ عن أبِي عَمْرٍو بِكَسْرِ الطاءِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "طاوِي"، قالَتْ فِرْقَةٌ: هو اسْمُ الوادِي، و"طُوًى" عَلى التَأْوِيلِ الأوَّلِ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِمْ ثُنًى وثُنًى، أيْ: مُثْنِيًا. وقَرَأ السَبْعَةُ غَيْرَ حَمْزَةَ: "وَأنا اخْتَرْتُكَ"، ويُؤَيِّدُ هَذِهِ القِراءَةَ تَناسُبُها مَعَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنا رَبُّكَ﴾، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "وَإنِّي اخْتَرْتُكَ"، وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ: "وَأنّا اخْتَرْناكَ" بِالجَمْعِ وفَتْحِ الهَمْزَةَ وشَدِّ النُونِ، والآيَةُ عَلى هَذا بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا﴾ [الإسراء: ١]، ثُمْ قالَ: ﴿وَآتَيْنا مُوسى الكِتابَ﴾ [الإسراء: ٢]، فَخَرَجَ مِن إفْرادٍ إلى جَمْعٍ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "وَإنّا اخْتَرْناكَ" بِكَسْرِ الألِفِ، وحَدَّثَنِي أبِي رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ: سَمِعَتْ أبا الفَضْلِ الجَوْهَرِيَّ يَقُولُ: لَمّا قِيلَ لِمُوسى عَلَيْهِ السَلامُ "اسْتَمِعْ لِما يُوحى" وقَفَ عَلى حَجَرٍ، واسْتَنَدَ إلى حَجَرٍ، ووَضَعَ يَمِينَهُ عَلى شَمالِهِ، وألْقى ذَقَنَهُ عَلى صَدْرِهِ، ووَقَفَ يَسْتَمِعُ، وكانَ كُلُّ لِباسِهِ صُوفًا، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بِالوادِ المُقَدَّسِ طاوِي". وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأقِمِ الصَلاةَ لِذِكْرِي﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: لِتَذْكِيرِي فِيها، أو يُرِيدُ: لِأذْكُرَكَ في عِلِّيِّينَ بِها، فالمَصْدَرُ - عَلى هَذا - يَحْتَمِلُ الإضافَةَ إلى الفاعِلِ أو إلى المَفْعُولِ، واللامُ لامُ السَبَبِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: قَوْلُهُ "لِذِكْرِي" أيْ عِنْدِ ذِكْرِي، أيْ إذا ذَكَرْتَنِي وأمْرِي لَكَ بِها، فاللامُ - عَلى هَذا - بِمَنزِلَتِها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أقِمِ الصَلاةَ لِدُلُوكِ الشَمْسِ﴾ [الإسراء: ٧٨] وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لِلذِّكْرى"، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لِذِكْرى" بِغَيْرِ تَعْرِيفٍ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "لِلذِّكْرِ". (p-٨٤)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب