الباحث القرآني
(p-٧٧)قوله عزّ وجلّ:
﴿الشَيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكم بِالفَحْشاءِ واللهُ يَعِدُكُمُ مَغْفِرَةً مِنهُ وفَضْلا واللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وما يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبابِ﴾
هَذِهِ الآيَةُ وما بَعْدَها وإنْ لَمْ تَكُنْ أمْرًا بِالصَدَقَةِ فَهي جالِبَةٌ لِلنُّفُوسِ إلى الصَدَقَةِ - بَيَّنَ عَزَّ وجَلَّ فِيها نَزَغاتِ الشَيْطانِ ووَسْوَسَتَهُ وعَداوَتَهُ. وذَكَّرَ بِثَوابِهِ هو لا رَبَّ غَيْرُهُ، وذَكَّرَ بِتَفَضُّلِهِ بِالحِكْمَةِ، وأثْنى عَلَيْها، ونَبَّهَ أنَّ أهْلَ العُقُولِ هُمُ المُتَذَكِّرُونَ الَّذِينَ يُقَيِّمُونَ بِالحِكْمَةِ قَدْرَ الإنْفاقِ في طاعَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وغَيْرَ ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ عِلْمَهُ بِكُلِّ نَفَقَةٍ ونَذْرٍ، وفي ذَلِكَ وعْدٌ ووَعِيدٌ، ثُمَّ بَيَّنَ الحُكْمَ في الإعْلانِ والإخْفاءِ وكَذَلِكَ إلى آخِرِ المَعْنى.
والوَعْدُ في كَلامِ العَرَبِ - إذا أُطْلِقَ - فَهو في الخَيْرِ، وإذا قُيِّدَ بِالمَوْعُودِ ما هُوَ، فَقَدْ يُقَيَّدُ بِالخَيْرِ، وقَدْ يُقَيَّدُ بِالشَرِّ، كالبِشارَةِ - فَهَذِهِ الآيَةُ مِمّا قُيِّدَ الوَعْدُ فِيها بِمَكْرُوهٍ وهو الفَقْرُ.
والفَحْشاءُ: كُلُّ ما فَحُشَ، وفَحُشَ ذِكْرُهُ ومَعاصِي اللهِ كُلُّها فَحْشاءُ، ورَوى حَيْوَةُ (p-٧٨)عن رَجُلٍ مِن أهْلِ الرِباطِ أنَّهُ قَرَأ "الفُقْرَ" بِضَمِّ الفاءِ، وهي لُغَةٌ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في الآيَةِ اثْنَتانِ مِنَ الشَيْطانِ، واثْنَتانِ مِنَ اللهِ تَعالى.
ورَوى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "إنَّ لِلشَّيْطانِ لَمَّةً مِنَ ابْنِ آدَمَ، ولِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأمّا لَمَّةُ الشَيْطانِ فَإيعادٌ بِالشَرِّ، وتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، فَمَن وجَدَ ذَلِكَ فَلْيَتَعَوَّذْ، وأمّا لَمَّةُ المَلَكِ فَوَعْدٌ بِالخَيْرِ، وتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَن وجَدَ ذَلِكَ فَلْيَحْمَدِ اللهَ، ثُمَّ قَرَأ عَلَيْهِ السَلامُ: ﴿الشَيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُمْ﴾ الآيَةَ.»
والمَغْفِرَةُ: هي السَتْرُ عَلى عِبادِهِ في الدُنْيا والآخِرَةِ، والفَضْلُ: هو الرِزْقُ في الدُنْيا والتَوْسِعَةُ فِيهِ، والنَعِيمُ في الآخِرَةِ وبِكُلٍّ قَدْ وعَدَ اللهُ تَعالى.
وذَكَرَ النَقّاشُ أنَّ بَعْضَ الناسِ تَأْنَسُ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ الفَقْرَ أفْضَلُ مِنَ الغِنى، لِأنَّ الشَيْطانَ إنَّما يُبْعِدُ العَبْدَ مِنَ الخَيْرِ وهو بِتَخْوِيفِهِ الفَقْرَ يَبْعُدُ مِنهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: ولَيْسَ في الآيَةِ حُجَّةٌ قاطِعَةٌ إلّا أنَّ المُعارَضَةَ بِها قَوِيَّةٌ - ورُوِيَ أنَّ في التَوْراةِ: "عَبْدِي، أنْفِقْ مِن رِزْقِي أبْسُطْ عَلَيْكَ فَضْلِي، فَإنَّ يَدِي مَبْسُوطَةٌ عَلى كُلِّ يَدٍ مَبْسُوطَةٍ". وفي القُرْآنِ مِصْداقُهُ وهُوَ: ﴿وَما أنْفَقْتُمْ مِن شَيْءٍ فَهو يُخْلِفُهُ وهو خَيْرُ الرازِقِينَ﴾ [سبإ: ٣٩] و"واسِعٌ" لِأنَّهُ وسِعَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عن نَفْسِهِ أنَّهُ: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ﴾ أيْ يُعْطِيها لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ، (p-٧٩)واخْتَلَفَ المُتَأوِّلُونَ في الحِكْمَةِ في هَذا المَوْضِعِ - فَقالَ السُدِّيُّ: الحِكْمَةُ: النُبُوَّةُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي المَعْرِفَةُ بِالقُرْآنِ فِقْهِهِ ونَسْخِهِ ومُحْكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ وعَرَبِيَّتِهِ، وقالَ قَتادَةُ: الحِكْمَةُ: الفِقْهُ في القُرْآنِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقالَ مُجاهِدٌ أيْضًا: الحِكْمَةُ: الإصابَةُ في القَوْلِ والفِعْلِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ وأبُوهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: الحِكْمَةُ: العَقْلُ في الدِينِ، وقالَ مالِكٌ: الحِكْمَةُ: المَعْرِفَةُ في الدِينِ، والفِقْهُ فِيهِ، والِاتِّباعُ لَهُ، ورَوى عنهُ ابْنُ القاسِمِ أنَّهُ قالَ: الحِكْمَةُ: التَفَكُّرُ في أمْرِ اللهِ، والِاتِّباعُ لَهُ، وقالَ أيْضًا: الحِكْمَةُ: طاعَةُ اللهِ، والفِقْهُ في الدِينِ والعَمَلُ بِهِ، وقالَ الرَبِيعُ: الحِكْمَةُ: الخَشْيَةُ. ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ: « "رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ خَشْيَةُ اللهِ تَعالى"». وقالَ إبْراهِيمُ: الحِكْمَةُ: الفَهْمُ، وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، وقالَ الحَسَنُ: الحِكْمَةُ: الوَرَعُ.
وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها ما عَدا قَوْلِ السُدِّيِّ قَرِيبٌ بَعْضُها مِن بَعْضٍ، لِأنَّ الحِكْمَةَ مَصْدَرٌ مِنَ الإحْكامِ وهو الإتْقانُ في عَمَلٍ أو قَوْلٍ - وكِتابُ اللهِ: حِكْمَةٌ - وسُنَّةُ نَبِيِّهِ: حِكْمَةٌ، وكُلُّ ما ذُكِرَ فَهو جُزْءٌ مِنَ الحِكْمَةِ الَّتِي هي الجِنْسُ - وقَرَأ الجُمْهُورُ: "مَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ الزُهْرِيُّ ويَعْقُوبُ: "وَمَن يُؤْتِ" بِكَسْرِ التاءِ عَلى مَعْنى: ومَن يُؤْتِ اللهُ الحِكْمَةَ، فَـ "مَن" مَفْعُولٌ أوَّلٌ مُقَدَّمٌ، و"الحِكْمَةَ" مَفْعُولٌ ثانٍ، وقَرَأ الأخْفَشُ: "وَمَن يُؤْتِهِ الحِكْمَةَ"،، وقَرَأ الرَبِيعُ بْنُ خَثِيمٍ "تُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن تَشاءُ" بِالتاءِ في "تُؤْتِي"، وفي "تَشاءُ" مَنقُوطَةً مِن فَوْقٍ، "وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ" بِالياءِ.
وباقِي الآيَةِ تَذَكُّرُ بَيِّنَةٍ وإقامَةٌ لِهِمَمِ الغَفْلَةِ. والألْبابُ: العُقُولُ، واحِدُها: لُبٌّ.
{"ayahs_start":268,"ayahs":["ٱلشَّیۡطَـٰنُ یَعِدُكُمُ ٱلۡفَقۡرَ وَیَأۡمُرُكُم بِٱلۡفَحۡشَاۤءِۖ وَٱللَّهُ یَعِدُكُم مَّغۡفِرَةࣰ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣰاۗ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمࣱ","یُؤۡتِی ٱلۡحِكۡمَةَ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِیَ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"],"ayah":"یُؤۡتِی ٱلۡحِكۡمَةَ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُؤۡتَ ٱلۡحِكۡمَةَ فَقَدۡ أُوتِیَ خَیۡرࣰا كَثِیرࣰاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق