الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ومَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أذًى واللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى كالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ الناسِ ولا يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾
هَذا إخْبارُ جَزْمٍ مِنَ اللهِ تَعالى أنَّ القَوْلَ المَعْرُوفَ وهو الدُعاءُ والتَأْنِيسُ والتَرْجِيَةُ بِما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِن صَدَقَةٍ هي في ظاهِرِها صَدَقَةٌ، وفي باطِنِها لا شَيْءَ، لِأنَّ ذَلِكَ القَوْلَ المَعْرُوفَ فِيهِ أجْرٌ، وهَذِهِ لا أجْرَ فِيها.
قالَ المَهْدَوِيُّ وغَيْرُهُ: التَقْدِيرُ في إعْرابِهِ: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أولى، ومَغْفِرَةٌ خَيْرٌ.
(p-٦١)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وفي هَذا ذَهابٌ بِرَوْنَقِ المَعْنى، وإنَّما يَكُونُ المُقَدَّرُ كالظاهِرِ، والمَغْفِرَةُ السَتْرَ لِلْخَلَّةِ وسُوءِ حالَةِ المُحْتاجِ، ومِن هَذا قَوْلُ الأعْرابِيِّ - وقَدْ سَألَ قَوْمًا بِكَلامٍ فَصِيحٍ، فَقالَ لَهُ قائِلٌ: مِمَّنِ الرَجُلُ؟ فَقالَ: "اللهُمَّ غَفْرًا، سُوءُ الِاكْتِسابِ يَمْنَعُ مِنَ الِانْتِسابِ"، وقالَ النَقّاشُ: يُقالُ: مَعْناهُ ومَغْفِرَةٌ لِلسّائِلِ إنْ أغْلَظَ أو جَفا إذا حُرِمَ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِغِناهُ عن صَدَقَةِ مَن هَذِهِ حالُهُ، وعاقِبَةِ أمْرِهِ، وعن حِلْمِهِ عَمَّنْ يُمْكِنُ أنْ يُوقِعَ هَذا مِن عَبِيدِهِ وإمْهالِهِمْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى﴾ الآيَةُ. العَقِيدَةُ أنَّ السَيِّئاتِ لا تُبْطِلُ الحَسَناتِ، فَقالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّ الصَدَقَةَ الَّتِي (p-٦٢)يَعْلَمُ اللهُ في صاحِبِها أنَّهُ يَمُنُّ أو يُؤْذِي فَإنَّهُ لا يَتَقَبَّلُ صَدَقَتَهُ، وقِيلَ: بَلْ جَعَلَ اللهُ لِلْمَلَكِ عَلَيْها أمارَةً فَلا يَكْتُبُها.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا أحْسَنُ لِأنَّ ما نَتَلَقّى نَحْنُ عَنِ المَعْقُولِ مِن بَنِي آدَمَ فَهو أنَّ المانَّ المُؤْذِيَ يَنُصُّ عَلى نَفْسِهِ أنَّ نِيَّتَهُ لَمْ تَكُنْ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى ما ذَكَرْناهُ قَبْلُ، فَلَمْ تَتَرَتَّبْ لَهُ (p-٦٣)صَدَقَةٌ، فَهَذا هو بُطْلانُ الصَدَقَةِ بِالمَنِّ والأذى، والمَنُّ والأذى في صَدَقَةٍ لا يُبْطِلُ صَدَقَةً غَيْرَها، إذْ لَمْ يَكْشِفْ ذَلِكَ عَلى النِيَّةِ في السَلِيمَةِ، ولا قَدَحَ فِيها.
ثُمَّ مَثَّلَ اللهُ هَذا الَّذِي يَمُنُّ ويُؤْذِي بِحَسَبِ مُقَدِّمَةِ نِيَّتِهِ بِالَّذِي يُنْفِقُ رِياءً لا لِوَجْهِ اللهِ، والرِياءُ مَصْدَرٌ مِن فاعِلٍ مِنَ الرُؤْيَةِ، كَأنَّ الرِياءَ تَظاهُرٌ وتَفاخُرٌ بَيْنَ مَن لا خَيْرَ فِيهِ مِنَ الناسِ. قالَ المَهْدَوِيُّ والتَقْدِيرُ: كَإبْطالِ الَّذِي يُنْفِقُ رِئاءً.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الكافِرَ الظاهِرَ الكُفْرِ، إذْ قَدْ يُنْفِقُ لِيُقالَ جَوادٌ، ولِيُثْنى عَلَيْهِ بِأنْواعِ الثَناءِ، ولِغَيْرِ ذَلِكَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ المُنافِقَ الَّذِي يُظْهِرُ الإيمانَ.
ثُمَّ مَثَّلَ هَذا الَّذِي يُنْفِقُ رِياءً بِصَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ، فَيَظُنُّهُ الظانُّ أرْضًا مُنْبِتَةً طَيِّبَةً، كَما يَظُنُّ قَوْمٌ أنَّ صَدَقَةَ هَذا المُرائِي لَها قَدْرٌ أو مَعْنىً، فَإذا أصابَ الصَفْوانَ وابِلٌ مِنَ المَطَرِ انْكَشَفَ ذَلِكَ التُرابُ، وبَقِيَ صَلْدًا، فَكَذَلِكَ هَذا المُرائِي إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ، وحَضَرَتِ الأعْمالُ،وَ انْكَشَفَ سِرُّهُ، وظَهَرَ أنَّهُ لا قَدْرَ لِصَدَقَتِهِ ولا مَعْنى.
فالمَنُّ والأذى والرِياءُ يَكْشِفُ عَنِ النِيَّةِ، فَيُبْطِلُ الصَدَقَةَ، كَما يَكْشِفُ الوابِلُ الصَفا فَيُذْهِبُ ما ظُنَّ أرْضًا.
وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "رِياءَ الناسِ" بِغَيْرِ هَمْزٍ، ورُوِيَتْ عن عاصِمٍ. (p-٦٤)والصَفْوانُ: الحَجَرُ الكَبِيرُ الأمْلَسُ، قِيلَ: هو جَمْعٌ واحِدَتُهُ صَفْوانَةٌ، وقالَ قَوْمٌ: واحِدَتُهُ صَفْواةٌ، وقِيلَ: هو إفْرادٌ، وجَمْعُهُ صَفِي، وأنْكَرَهُ المُبَرِّدُ، وقالَ: إنَّما هو جَمْعُ صَفا، ومِن هَذا المَعْنى الصَفْواءُ والصَفا. قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
؎ كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِبْدُ عن حالِ مَتْنِهِ ∗∗∗ كَما زَلَّتِ الصَفْواءُ بِالمُتَنَزِّلِ
وقالَ أبُو ذُؤَيْبٍ:
؎ حَتّى كَأنِّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَةٌ ∗∗∗ ∗∗∗ بِصَفا المَشَقَّرِ كُلَّ حِينٍ تُقْرَعُ
وقَرَأ الزُهْرِيُّ، وابْنُ المُسَيِّبِ: "صَفَوانٍ" بِفَتْحِ الفاءِ، وهي لُغَةٌ.
والوابِلُ الكَثِيرُ القَوِيُّ مِنَ المَطَرِ وهو الَّذِي يَسِيلُ عَلى وجْهِ الأرْضِ. والصَلْدُ مِنَ الحِجارَةِ الأمْلَسُ الصَلْبُ الَّذِي لا شَيْءَ فِيهِ، ويُسْتَعارُ لِلرَّأْسِ الَّذِي لا شَعْرَ فِيهِ، ومِنهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
؎ ..................... ∗∗∗ بَرّاقَ أصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَهِ
قالَ النَقّاشُ: الصَلْدُ: الأجْرَدُ بِلُغَةِ هُذَيْلٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَقْدِرُونَ﴾ يُرِيدُ بِهِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ رِئاءً، أيْ: لا يَقْدِرُونَ عَلى الِانْتِفاعِ بِثَوابِ شَيْءٍ مِن إنْفاقِهِمْ ذَلِكَ، وهو كَسْبُهم - وجاءَتِ العِبارَةُ بِيَقْدِرُونَ عَلى مَعْنى الَّذِي، وقَدِ انْحَمَلَ الكَلامُ قَبْلُ عَلى لَفْظِ الَّذِي، وهَذا هو مَهْيَعُ كَلامِ العَرَبِ، ولَوِ انْحَمَلَ أوَّلًا عَلى المَعْنى لَقَبُحَ بَعْدُ أنْ يُحْمَلَ عَلى اللَفْظِ. (p-٦٥)وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ إمّا عُمُومٌ يُرادُ بِهِ الخُصُوصُ في المُوافِي عَلى الكُفْرِ، وإمّا أنْ يُرادَ بِهِ أنَّهُ لَمْ يَهْدِهِمْ في كُفْرِهِمْ، بَلْ هو ضَلالٌ مَحْضٌ، وإمّا أنْ يُرِيدَ أنَّهُ لا يَهْدِيهِمْ في صَدَقاتِهِمْ وأعْمالِهِمْ وهم عَلى الكُفْرِ.
وما ذَكَرْتُهُ في هَذِهِ الآيَةِ مِن تَفْسِيرِ لُغَةٍ، وتَقْوِيمِ مَعْنىً، فَإنَّهُ مُسْنَدٌ عَنِ المُفَسِّرِينَ، وإنْ لَمْ تَجِئْ ألْفاظُهم مُلَخَّصَةً في تَفْسِيرِ إبْطالِ المَنِّ والأذى لِلصَّدَقَةِ.
{"ayahs_start":263,"ayahs":["۞ قَوۡلࣱ مَّعۡرُوفࣱ وَمَغۡفِرَةٌ خَیۡرࣱ مِّن صَدَقَةࣲ یَتۡبَعُهَاۤ أَذࣰىۗ وَٱللَّهُ غَنِیٌّ حَلِیمࣱ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُبۡطِلُوا۟ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِی یُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَلَا یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَیۡهِ تُرَابࣱ فَأَصَابَهُۥ وَابِلࣱ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدࣰاۖ لَّا یَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَیۡءࣲ مِّمَّا كَسَبُوا۟ۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُبۡطِلُوا۟ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِی یُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَلَا یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَیۡهِ تُرَابࣱ فَأَصَابَهُۥ وَابِلࣱ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدࣰاۖ لَّا یَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَیۡءࣲ مِّمَّا كَسَبُوا۟ۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق