الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنَ الناسِ مَن يَتَّخِذُ مَن دُونِ اللهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ولَوْ يَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وأنَّ اللهِ شَدِيدُ العَذابَ﴾ ﴿إذْ تَبَرَّأ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا ورَأوُا العَذابَ وتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبابُ﴾ ﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأ مِنهم كَما تَبَرَّءُوا مِنّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وما هم بِخارِجِينَ مِنَ النارِ﴾ ذَكَرَ اللهُ تَعالى الوَحْدانِيَّةَ، ثُمَّ الآياتِ الدالَّةِ عَلى الصانِعِ، الَّذِي لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ إلّا واحِدًا، ثُمَّ ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ الجاحِدِينَ الضالِّينَ تَعَجُّبًا مِن سُوءِ ضَلالِهِمْ مَعَ الآياتِ، (p-٤٠٢)لِأنَّ المَعْنى: إنَّ في هَذِهِ الأُمُورِ لَآياتٌ بَيِّنَةٌ، "وَمِنَ الناسِ" -مَعَ ذَلِكَ البَيانِ- " مَن يَتَّخِذُ ". وخَرَجَ "يَتَّخِذُ" مُوَحَّدًا عَلى لَفْظِ "مَن" والمَعْنى جَمْعُهُ. و"مِن دُونِ" لَفْظٌ يُعْطِي غَيْبَةَ ما تُضافُ إلَيْهِ "دُونِ" عَنِ القَضِيَّةِ الَّتِي فِيها الكَلامُ وتَفْسِيرُ "دُونِ" بِسِوى، أو بِغَيْرِ، لا يَطَّرِدُ. والنِدُّ: النَظِيرُ والمُقاوِمُ والمُوازِي، كانَ ضِدًّا، أو خِلافًا، أو مَثَلًا، إذا قاوَمَ مِن جِهَةٍ فَهو مِنها نِدٌّ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: المُرادُ بِالأنْدادِ الأوثانُ. وجاءَ ضَمِيرُها في " يُحِبُّونَهم " ضَمِيرُ مَن يَعْقِلُ، لَمّا نَزَلَتْ بِالعِبادَةِ مَنزِلَةَ مَن يَعْقِلُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والسُدِّيُّ: المُرادُ بِالأنْدادِ الرُؤَساءُ المُتَّبَعُونَ، يُطِيعُونَهم في مَعاصِي اللهِ تَعالى. و" يُحِبُّونَهم " في مَوْضِعِ نَصْبِ نَعْتٍ لِلْأنْدادِ، أو عَلى الحالِ مِنَ المُضْمَرِ في "يَتَّخِذُ"، أو يَكُونُ في مَوْضِعِ رَفْعِ نَعْتٍ لـ "مَن"، وهَذا عَلى أنْ تَكُونَ "مَن" نَكِرَةً. والكافُ مِن "كَحُبِّ" في مَوْضِعِ نَصْبِ نَعْتٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، و"حُبِّ": مَصْدَرٌ مُضافٌ إلى المَفْعُولِ في اللَفْظِ، وهو عَلى التَقْدِيرِ مُضافٌ إلى الفاعِلِ المُضْمَرِ، تَقْدِيرُهُ: كَحُبِّهِمْ. أيْ يُسَوُّونَ بَيْنَ مَحَبَّةِ اللهِ ومَحَبَّةِ الأوثانِ. ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ المُؤْمِنِينَ أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لِإخْلاصِهِمْ وتَيَقُّنِهِمُ الحَقَّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ( ولَوْ تَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا )، قَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، و"أنَّ" بِفَتْحِ الألِفِ، و"أنِ" الأُخْرى كَذَلِكَ عَطْفٌ عَلى الأُولى، وتَقْدِيرُ ذَلِكَ: ولَوْ تَرى يا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا في حالِ رُؤْيَتِهِمْ لِلْعَذابِ، وفَزَعِهِمْ مِنهُ، واسْتِعْظامِهِمْ لَهُ، لَأقَرُّوا (p-٤٠٣)أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ، فالجَوابُ مُضْمَرٌ عَلى هَذا النَحْوِ مِنَ المَعْنى، وهو العامِلُ في "أنَّ". وتَقْدِيرٌ آخَرُ: ولَوْ تَرى يا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا في حالِ رُؤْيَتِهِمْ لِلْعَذابِ، وفَزَعِهِمْ مِنهُ، لَعَلِمْتَ أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، وقَدْ كانَ النَبِيُّ ﷺ عَلِمَ ذَلِكَ، ولَكِنْ خُوطِبَ، والمُرادُ أُمَّتُهُ، فَإنَّ فِيهِمْ مَن يَحْتاجُ إلى تَقْوِيَةِ عِلْمِهِ بِمُشاهَدَةِ مِثْلِ هَذا. وتَقْدِيرٌ ثالِثٌ: ولَوْ تَرى يا مُحَمَّدُ الَّذِينَ ظَلَمُوا في حالِ رُؤْيَتِهِمْ لِلْعَذابِ -لِأنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ- لَعَلِمْتَ مَبْلَغَهم مِنَ النَكالِ، ولاسْتَعْظَمْتَ ما حَلَّ بِهِمْ، فاللامُ مُضْمَرَةٌ قَبْلَ "أنْ" فَهي مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، والجَوابُ مَحْذُوفٌ مُقَدَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وقَدْ حُذِفَ جَوابُ "لَوَ" مُبالَغَةً، لِأنَّكَ تَدَعُ السامِعَ يَسْمُو بِهِ تَخَيُّلَهُ، ولَوْ شَرَحْتَ لَهُ، لَوَطَنَتْ نَفْسُهُ إلى ما شَرَحَتْ. وقَرَأ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، وشَيْبَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ: "تَرى" بِالتاءِ مِن فَوْقٍ، وكَسْرِ الهَمْزَةِ مِن "إنَّ"، وتَأْوِيلُ ذَلِكَ: ولَوْ تَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ، لاسْتَعْظَمْتَ ما حَلَّ بِهِمْ، ثُمَّ ابْتَدَأ الخَبَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ﴾. وتَأْوِيلٌ آخَرُ: ولَوْ تَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ يَقُولُونَ: إنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا لاسْتَعْظَمْتَ حالَهم. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وابْنُ كَثِيرٍ "يَرى" بِالياءِ مِن أسْفَلٍ وفَتْحِ الألْفِ مِن "أنَّ". تَأْوِيلُهُ: ولَوْ يَرى في الدُنْيا الَّذِينَ ظَلَمُوا حالَهم في الآخِرَةِ، إذْ يَرَوْنَ العَذابَ، لَعَلِمُوا أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ. وتَأْوِيلٌ آخَرُ، رُوِيَ عَنِ المُبَرِّدِ والأخْفَشِ: ولَوْ يَرى -بِمَعْنى يَعْلَمُ- الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ، أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، لاسْتَعْظَمُوا ما حَلَّ بِهِمْ، فَـ "يَرى" عامِلٌ في "أنَّ" وسَدَّتْ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: الرُؤْيَةُ في هَذِهِ الآيَةِ رُؤْيَةُ البَصَرِ، والتَقْدِيرُ في قِراءَةِ الياءِ ولَوْ يَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وحُذِفَ جَوابُ "لَوَ" لِلْمُبالَغَةِ، ويَعْمَلُ في "أنَّ" الفِعْلُ الظاهِرُ، وهو أرْجَحُ مِن أنْ يَكُونَ العامِلُ فِيها مُقَدَّرًا. (p-٤٠٤)وَدَخَلَتْ "إذْ" وهي لَما مَضى في أثْناءِ هَذِهِ المُسْتَقْبِلاتِ تَقْرِيبًا لِلْأمْرِ، وتَصْحِيحًا لِوُقُوعِهِ، كَما يَقَعُ الماضِي مَوْقِعَ المُسْتَقْبَلِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنادى أصْحابُ النارِ أصْحابُ الجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٥٠] و﴿أتى أمْرُ اللهِ﴾ [النحل: ١] ومِنهُ قَوْلُ الأشْتَرِ النَخْعِيِّ: ؎ بَقَّيْتُ نَفْسِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلا ولَقِيتُ أضْيافِي بِوَجْهٍ عَبُوسِ وقَرَأتْ طائِفَةٌ "يَرى" بِالياءِ مِن أسْفَلَ، وكَسْرِ الألْفِ مِن "إنَّ"، وذَلِكَ إمّا عَلى حَذْفِ الجَوابِ وابْتِداءِ الخَبَرِ، وإمّا عَلى تَقْدِيرِ: لَقالُوا: إنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ: "يَرَوْنَ" بِضَمِّ الياءِ، والباقُونَ بِفَتْحِها. وثَبَتَتْ بِنَصِّ هَذِهِ الآيَةِ القُوَّةُ لِلَّهِ، بِخِلافِ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، في نَفْيِهِمْ مَعانِي الصِفاتِ القَدِيمَةِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: " الَّذِينَ اتُّبِعُوا " كُلُّ مَن عَبَدَ مِن دُونِ اللهِ، وقالَ قَتادَةُ: هُمُ الشَياطِينُ المُضِلُّونَ، وقالَ الرَبِيعُ، وعَطاءٌ: هم رُؤَساؤُهم. ولَفْظُ الآيَةِ يَعُمُّ هَذا كُلَّهُ. و"إذْ" يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِـ "شَدِيدُ العَذابِ"، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ العامِلُ فِيها اذْكُرْ. و" الَّذِينَ اتُّبِعُوا " بِفَتْحِ الباءِ- هُمُ العَبَدَةُ لِغَيْرِ اللهِ، والضالُّونَ المُقَلِّدُونَ لِرُؤَسائِهِمْ أو لِلشَّياطِينِ. وتَبْرِيرُهم هو بِأنْ قالُوا: إنّا لَمْ نُضِلَّ هَؤُلاءِ، بَلْ كَفَرُوا بِإرادَتِهِمْ، وتَعَلَّقَ العِقابُ عَلى المُتَّبَعِينَ بِكُفْرِهِمْ، ولَمْ يَتَأتَّ ما حاوَلُوهُ مِن تَعْلِيقِ ذُنُوبِهِمْ عَلى المُضِلِّينَ. وقَرَأ مُجاهِدٌ بِتَقْدِيمِ الفِعْلِ المُسْنَدِ إلى المُتَّبِعِينَ لِلرُّؤَساءِ، وتَأْخِيرِ المُسْنَدِ إلى المُتَّبَعِينَ. والسَبَبُ في اللُغَةِ: الحَبْلُ الرابِطُ المُوصِلُ، فَيُقالُ في كُلِّ ما يَتَمَسَّكُ بِهِ فَيْصَلٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الأسْبابُ هُنا الأرْحامُ. وقالَ مُجاهِدٌ: هي العُهُودُ، وقِيلَ: (p-٤٠٥)المَوَدّاتُ، وقِيلَ: المَنازِلُ الَّتِي كانَتْ لَهم في الدُنْيا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ، والسُدِّيُّ: هي الأعْمالُ إذْ أعْمالُ المُؤْمِنِينَ كالسَبَبِ في تَنْعِيمِهِمْ، فَتَقَطَّعَتْ بِالظالِمِينَ أعْمالُهم. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ الآيَةُ، المَعْنى وقالَ الأتْباعُ الَّذِينَ تُبُرِّئَ مِنهُمْ: لَوْ رُدِدْنا إلى الدُنْيا حَتّى نَعْمَلَ صالِحًا ونَتَبَرَّأ مِنهُمْ، والكَرَّةُ العَوْدَةُ إلى حالٍ قَدْ كانَتْ، ومِنهُ قَوْلُ جَرِيرٍ: ؎ ولَقَدْ عَطَفْنَ عَلى فَزارَةَ عَطْفَةً ∗∗∗ كَرَّ المَنِيحِ، وجُلْنَ ثُمَّ مَجالًا والمَنِيحُ هُنا أحَدُ الأغْفالِ مِن سِهامِ المَيْسِرِ، وذَلِكَ أنَّهُ إذا خَرَجَ مِنَ الرَبابَةِ رَدَّ لِفَوْرِهِ لِأنَّهُ لا فَرْضَ فِيهِ، ولا حُكْمَ عنهُ. والكافُ مِن قَوْلِهِ: "كَما" في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى النَعْتِ، إمّا لِمَصْدَرٍ أو لِحالٍ تَقْدِيرُها: مُتَبَرِّئِينَ كَما، والكافُ مِن قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ﴾، قِيلَ: هي في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ تَقْدِيرُهُ: الأمْرُ كَذَلِكَ، وقِيلَ: هي كافُ تَشْبِيهٍ مُجَرَّدَةٌ، والإشارَةُ بِذَلِكَ إلى حالِهِمْ وقْتَ تَمَنِّيهِمُ الكَرَّةَ. والرُؤْيَةُ في الآيَةِ هي مِن رُؤْيَةِ البَصَرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِن رُؤْيَةِ القَلْبِ. و"أعْمالَهُمْ" قالَ الرَبِيعُ، وابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى: الفاسِدَةُ الَّتِي ارْتَكَبُوها فَوَجَبَتْ لَهم بِها النارُ، وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، والسُدِّيُّ: المَعْنى: الصالِحَةُ الَّتِي تَرَكُوها فَفاتَتْهُمُ الجَنَّةُ، ورُوِيَتْ في هَذا القَوْلِ أحادِيثُ. وأُضِيفَتْ هَذِهِ الأعْمالُ إلَيْهِمْ مِن حَيْثُ هم مَأْمُورُونَ بِها، وأمّا إضافَةُ الفاسِدَةِ فَمِن حَيْثُ عَمِلُوها. (p-٤٠٦)وَ"حَسَراتٍ" حالٌ عَلى أنْ تَكُونَ الرُؤْيَةُ بَصَرِيَّةً، ومَفْعُولٌ عَلى أنْ تَكُونَ قَلْبِيَّةً، والحَسْرَةُ أعْلى دَرَجاتِ النَدامَةِ والهَمِّ بِما فاتَ، وهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الشَيْءِ الحَسِيرِ الَّذِي قَدِ انْقَطَعَ وذَهَبَتْ قُوَّتُهُ كالبَعِيرِ والبَصَرِ، وقِيلَ: هي مِن حَسْرٍ إذا كَشَفَ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «يَحْسَرُ الفُراتُ عن جَبَلٍ مِن ذَهَبٍ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب