الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ويَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهم وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾
اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في هَذا الِاسْتِهْزاءِ: فَقالَ جُمْهُورُ العُلَماءِ: هي تَسْمِيَةُ العُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَنْبِ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ كَثِيرًا، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ:
؎ ألا لا يَجْهَلْنَ أحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا
وقالَ قَوْمٌ: إنَّ اللهَ تَعالى يَفْعَلُ بِهِمْ أفْعالًا هي في تَأمُّلِ البَشَرِ هُزُؤٌ، حَسَبَ ما يُرْوى: "إنَّ النارَ تَجْمُدُ كَما تَجْمُدُ الإهالَةُ فَيَمْشُونَ عَلَيْها، ويَظُنُّونَها مَنجاةً فَتُخْسَفُ بِهِمْ". وما يُرْوى: "إنَّ أبْوابَ النارِ تُفْتَحُ لَهم فَيَذْهَبُونَ إلى الخُرُوجِ، نَحا هَذا المَنحى ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ.
(p-١٢٩)وَقالَ قَوْمٌ: اسْتِهْزاؤُهُ بِهِمْ، هو اسْتِدْراجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وذَلِكَ أنَّهُمْ، بِدُرُورِ نِعَمِ اللهِ الدُنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِمْ يَظُنُّونَ أنَّهُ راضٍ عنهُمْ، وهو تَعالى قَدْ حَتَّمَ عَذابَهُمْ، فَهَذا عَلى تَأمُّلِ البَشَرِ كَأنَّهُ اسْتِهْزاءٌ.
و"يَمُدُّهُمْ" مَعْناهُ: يَزِيدُهم في الطُغْيانِ، وقالَ مُجاهِدٌ: "مَعْناهُ: يُمْلِي لَهُمْ". قالَ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ: يُقالُ "مَدَّ في الشَرِّ، وأمَدَّ في الخَيْرِ". وقالَ غَيْرُهُ: "مَدَّ الشَيْءَ. ومَدَّهُ ما كانَ مِثْلَهُ ومِن جِنْسِهِ، وأمَدَّهُ ما كانَ مُغايِرًا لَهُ"، تَقُولُ: مَدَّ النَهْرُ، ومَدَّهُ نَهْرٌ آخَرُ، ويُقالُ: أمَدَّهُ، قالَ اللِحْيانِيُّ: يُقالُ لِكُلِّ شَيْءٍ دَخَلَ فِيهِ مِثْلُهُ فَكَثَّرَهُ: "مَدَّهُ يَمُدُّهُ مَدًّا"، وفي التَنْزِيلِ: ﴿والبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُرٍ﴾ [لقمان: ٢٧].
ومادَّةُ الشَيْءِ ما يَمُدُّهُ، دَخَلَتْ فِيهِ الهاءُ لِلْمُبالَغَةِ.
قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وغَيْرُهُ: مَدَدْتُ الدَواةَ وأمْدَدْتُها بِمَعْنًى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ مَدَدْتُها جَعَلْتُ إلى مِدادِها آخَرُ، وأمْدَدْتُها جَعَلْتُها ذاتَ مِدادٍ، مِثْلَ قَبَرَ، وأقْبَرَ، وحَصَرَ وأحْصَرَ، ومَدَدْنا القَوْمَ: صِرْنا لَهم أنْصارًا وأمْدَدْناهم بِغَيْرِنا، وحَكى اللِحْيانِيُّ أيْضًا: أمَدَّ الأمِيرُ جُنْدَهُ بِالخَيْلِ، وفي التَنْزِيلِ: ﴿وَأمْدَدْناكم بِأمْوالٍ وبَنِينَ﴾ [الإسراء: ٦].
(p-١٣٠)قالَ بَعْضُ اللُغَوِيِّينَ: ﴿وَيَمُدُّهم في طُغْيانِهِمْ﴾ أيْ يُمْهِلْهم ويُلِجُّهُمْ، فَتَحْتَمِلُ اللَفْظَةُ أنْ تَكُونَ مِنَ المَدِّ الَّذِي هو المَطْلُ والتَطْوِيلُ، كَما فُسِّرَ فِي: ﴿عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ﴾ [الهمزة: ٩]، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مِن مَعْنى الزِيادَةِ في نَفْسِ الطُغْيانِ، و"الطُغْيانُ": الغُلُوُّ وتَعَدِّي الحَدُّ، كَما يُقالُ: طَغى الماءُ، وطَغَتِ النارُ، ورُوِيَ عَنِ الكِسائِيِّ إمالَةُ "طُغْيانِهِمْ"، و"يَعْمَهُونَ": يَتَرَدَّدُونَ حَيْرَةً. والعَمَهُ الحَيْرَةُ مِن جِهَةِ النَظَرِ، والعامَّةُ الَّذِي كَأنَّهُ لا يُبْصِرُ مِنَ التَحَيُّرِ في ظَلامٍ، أو فَلاةٍ، أو هَمٍّ.
وقَوْلُهُ: "أُولَئِكَ" إشارَةٌ إلى المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ، وهو رَفْعٌ بِالِابْتِداءِ، و"الَّذِينَ" خَبَرُهُ، و"اشْتَرَوُا" صِلَةً لـ "الَّذِينَ"، وأصْلُهُ اشْتَرِيُوا تَحَرَّكَتِ الياءُ وانْفَتَحَ ما قَبْلَها فانْقَلَبَتْ ألِفًا، فَحُذِفَتْ لِالتِقاءِ الساكِنَيْنِ، وقِيلَ: اسْتُثْقِلَتِ الضَمَّةُ عَلى الياءِ فَسَكَنَتْ، وحُذِفَتْ لِلِالتِقاءِ، وحُرِّكَتِ الواوُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِالتِقاءِ بِالساكِنِ بَعْدَها، وخُصَّتْ بِالضَمِّ لِوُجُوهٍ، مِنها: أنَّ الضَمَّةَ أُخْتُ الواوِ وأخَفُّ الحَرَكاتِ عَلَيْها. ومِنها: أنَّهُ لَمّا كانَتْ واوَ جَماعَةٍ ضُمَّتْ كَما فُعِلَ بِالنُونِ في نَحْنُ. ومِنها: أنَّها ضُمَّتِ اتِّباعًا لِحَرَكَةِ الياءِ المَحْذُوفَةِ قَبْلَها. قالَ أبُو عَلِيٍّ: صارَ الضَمُّ فِيها أولى، لِيَفْصِلَ بَيْنَها وبَيْنَ واوِ أو ولَوْ، إذْ هَذانَ يُحَرَّكانِ بِالكَسْرِ. وقَرَأ أبُو السَمّالِ قُعْنُبُ العَدَوِيُّ، بِفَتْحِ الواوِ فِي: "اشْتَرَوُا الضَلالَةَ"، وقَرَأها يَحْيى بْنُ يَعْمُرَ بِكَسْرِ الواوِ، و"الضَلالَةَ" والضَلالُ: التَلَفُ، نَقِيضُ الهُدى، الَّذِي هو الرَشادُ إلى المَقْصِدِ.
واخْتَلَفَتْ عِبارَةُ المُفَسِّرِينَ عن مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿اشْتَرَوُا الضَلالَةَ بِالهُدى﴾.
فَقالَ قَوْمٌ: أخَذُوا الضَلالَةَ وتَرَكُوا الهُدى، وقالَ آخَرُونَ: اسْتَحَبُّوا الضَلالَةَ (p-١٣١)وَتَجَنَّبُوا الهُدى، كَما قالَ تَعالى: ﴿فاسْتَحَبُّوا العَمى عَلى الهُدى﴾ [فصلت: ١٧]. وقالَ آخَرُونَ: الشِراءُ هُنا اسْتِعارَةٌ وتَشْبِيهٌ، لَمّا تَرَكُوا الهُدى وهو مُعَرَّضٌ لَهم ووَقَعُوا بَدَلَهُ في الضَلالَةِ، واخْتارُوها، شُبِّهُوا بِمَنِ اشْتَرَوْا فَكَأنَّهم دَفَعُوا في الضَلالَةِ هُداهُمْ، إذْ كانَ لَهم أخْذُهُ، وبِهَذا المَعْنى تَعَلَّقَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ في مَنعِ أنْ يَشْتَرِيَ الرَجُلُ عَلى أنْ يَتَخَيَّرَ في كُلِّ ما تَخْتَلِفُ آحادُ جِنْسِهِ، ولا يَجُوزُ فِيهِ التَفاضُلُ.
وقالَ قَوْمٌ: الآيَةُ فِيمَن كانَ آمَنَ مِنَ المُنافِقِينَ، ثُمَّ ارْتَدَّ في باطِنِهِ وعَقْدِهِ، ويَقْرُبُ الشِراءُ مِنَ الحَقِيقَةِ عَلى هَذا.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ﴾ خَتْمٌ لِلْمَثَلِ بِما يُشْبِهُ مَبْدَأهُ في لَفْظَةِ الشِراءِ، وأسْنَدَ الرِبْحَ إلى التِجارَةِ كَما قالُوا: "لَيْلٌ قائِمٌ، ونَهارٌ صائِمٌ"، والمَعْنى: فَما رَبِحُوا في تِجارَتِهِمْ. وقَرَأ إبْراهِيمُ بْنُ أبِي عَبْلَةَ: "فَما رَبِحَتْ تِجاراتُهُمْ" بِالجَمْعِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ قِيلَ: المَعْنى في شِرائِهِمْ هَذا، وقِيلَ: عَلى الإطْلاقِ، وقِيلَ: في سابِقِ عِلْمِ اللهِ، وكُلُّ هَذا يَحْتَمِلُهُ اللَفْظُ.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["ٱللَّهُ یَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَیَمُدُّهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ ٱشۡتَرَوُا۟ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ"],"ayah":"ٱللَّهُ یَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَیَمُدُّهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق