الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ ولَدًا سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما في السَماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ ﴿بَدِيعُ السَماواتِ والأرْضِ وإذا قَضى أمْرًا فَإنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنا اللهُ أو تَأْتِينا آيَةٌ كَذَلِكَ قالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهم قَدْ بَيَّنّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ (p-٣٣٠)قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ عامَّةُ القُرّاءِ: "وَقالُوا" بِواوٍ تَرْبُطُ الجُمْلَةَ بِالجُمْلَةِ، أو تَعْطِفُ عَلى "سَعى". وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ، وغَيْرُهُ: "قالُوا" بِغَيْرِ واوٍ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ: وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِ أهْلِ الشامِ. وحُذِفَ مِنهُ الواوُ يَتَّجِهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مُرْتَبِطَةٌ في المَعْنى بِالَّتِي قَبْلَها فَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ الواوِ. والآخَرُ أنْ تُسْتَأْنَفَ هَذِهِ الجُمْلَةُ ولا يُراعى ارْتِباطُها بِما تَقَدَّمَ. واخْتَلَفَ عَلى مَن يَعُودُ الضَمِيرُ في "قالُوا"؟ فَقِيلَ: عَلى النَصارى لِأنَّهم قالُوا: المَسِيحُ ابْنُ اللهِ وذِكْرُهم أشْبَهُ بِسِياقِ الآيَةِ، وقِيلَ: عَلى اليَهُودِ، لِأنَّهم قالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وقِيلَ: عَلى كَفَرَةِ العَرَبِ لِأنَّهم قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللهِ. و"سُبْحانَهُ" مَصْدَرٌ مَعْناهُ تَنْزِيهًا لَهُ وتَبْرِئَةً مِمّا قالُوا، و"ما" رُفِعَ بِالِابْتِداءِ والخَبَرُ في المَجْرُورِ، أو بِالِاسْتِقْرارِ المُقَدَّرِ، أيْ كُلُّ ذَلِكَ لَهُ مِلْكٌ، والَّذِي قالُوا: إنَّ اللهَ اتَّخَذَ ولَدًا داخِلٌ في جُمْلَةِ ما في ( السَماواتِ والأرْضِ ) ولا يَكُونُ الوَلَدُ إلّا مِن جِنْسِ الوالِدِ لا مِنَ المَخْلُوقاتِ المَمْلُوكاتِ. والقُنُوتُ في اللُغَةِ الطاعَةُ، والقُنُوتُ طُولُ القِيامِ في عِبادَةٍ، ومِنهُ القُنُوتُ في (p-٣٣١)الصَلاةِ، فَمَعْنى الآيَةِ: أنَّ المَخْلُوقاتِ كُلَّها تَقْنُتُ لِلَّهِ، أيْ تَخْضَعُ وتُطِيعُ، والكُفّارُ والجَماداتُ قُنُوتُهم في ظُهُورِ الصَنْعَةِ عَلَيْهِمْ وفِيهِمْ. وقِيلَ: الكافِرُ يَسْجُدُ ظِلُّهُ وهو كارِهٌ. و"بَدِيعٌ" مَصْرُوفٌ مِن مُبْدِعٍ، كَبَصِيرٍ مِن مُبْصِرٍ، ومِثْلُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: ؎ أمِن رَيْحانَةَ الداعِي السَمِيعُ.......... يُرِيدُ المُسْمِعُ. والمُبْدِعُ المُخْتَرِعُ المُنْشِئُ، ومِنهُ أصْحابُ البِدَعِ ومِنهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ في صَلاةِ رَمَضانَ: نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ. وخُصَّ ( السَماواتِ والأرْضِ ) بِالذِكْرِ لِأنَّها أعْظَمُ ما نَرى مِن مَخْلُوقاتِهِ جَلَّ وعَلا. و"قَضى" مَعْناهُ: قَدَرَ، وقَدْ يَجِيءُ بِمَعْنى أمْضى، ويَتَّجِهُ في هَذِهِ الآيَةِ المَعْنَيانِ، فَعَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُنَّةِ قَدْرٌ في الأزَلِ وأمْضى فِيهِ، وعَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ أمْضى عِنْدَ الخَلْقِ والإيجادِ. والأمْرُ واحِدُ الأُمُورِ، ولَيْسَ هُنا بِمَصْدَرِ أمْرٍ يَأْمُرُ، "وَيَكُونُ" رُفِعَ عَلى الِاسْتِئْنافِ، قالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْناهُ فَهو يَكُونُ، قالَ غَيْرُهُ: "يَكُونُ" عُطِفَ عَلى "يَقُولُ"، واخْتارَهُ الطَبَرِيُّ وقَرَّرَهُ. وهو خَطَأٌ مِن جِهَةِ المَعْنى لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ القَوْلَ مَعَ التَكْوِينِ والوُجُودِ، (p-٣٣٢)وَتَكَلَّمَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ في هَذِهِ المَسْألَةِ بِما هو فاسِدٌ مِن جُمْلَةِ الِاعْتِزالِ لا مِن جِهَةِ العَرَبِيَّةِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ "فَيَكُونُ" بِالنَصْبِ، وضَعَّفَهُ أبُو عَلِيٍّ، ووَجْهُهُ -مَعَ ضَعْفِهِ- عَلى أنْ يَشْفَعَ لَهُ شِبْهُ اللَفْظِ. وقالَ أحْمَدُ بْنُ مُوسى في قِراءَةِ ابْنِ عامِرٍ: "هَذا لَحْنٌ". قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: لِأنَّ الفاءَ لا تَعْمَلُ في جَوابِ الأمْرِ إلّا إذا كانا فِعْلَيْنِ يَطَّرِدُ فِيهِما مَعْنى الشَرْطِ، تَقُولُ: أكْرِمْ زَيْدًا فَيُكْرِمْكَ، والمَعْنى: إنْ تُكْرِمْ زَيْدًا يُكْرِمْكَ، وفي هَذِهِ الآيَةِ لا يَتَّجِهُ هَذا، لِأنَّهُ يَجِيءُ تَقْدِيرُهُ: إنْ تَكُنْ تَكُنْ، ولا مَعْنى لِهَذا، والَّذِي يَطَّرِدُ فِيهِ مَعْنى الشَرْطِ هو أنْ يَخْتَلِفَ الفاعِلانِ أوِ الفِعْلانِ، فالأوَّلُ أكْرِمْ زَيْدًا فَيُكْرِمْكَ، والثانِي أكْرِمْ زَيْدًا فَتَسُودَ. وتَلْخِيصُ المُعْتَقَدِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَزَلْ آمِرًا لِلْمَعْدُوماتِ بِشَرْطِ وُجُودِها، قادِرًا مَعَ تَأخُّرِ المَقْدُوراتِ، عالِمًا مَعَ تَأخُّرِ وُقُوعِ المَعْلُوماتِ، فَكُلُّ ما في الآيَةِ مِمّا يَقْتَضِي الِاسْتِقْبالُ فَهو بِحَسَبَ المَأْمُوراتِ، إذِ المُحْدَثاتُ تَجِيءُ بَعْدَ أنْ لَمْ تَكُنْ، وكُلُّ ما يَسْتَنِدُ إلى اللهِ تَعالى مِن قُدْرَةٍ وعِلْمٍ وأمْرٍ فَهو قَدِيمٌ لَمْ يَزَلْ. ومَن جَعَلَ مِنَ المُفَسِّرِينَ "قَضى" بِمَعْنى أمْضى عِنْدَ الخَلْقِ والإيجادِ فَكَأنَّ إظْهارَ المُخْتَرَعاتِ في أوقاتِها المُؤَجَّلَةِ قَوْلٌ لَها: "كُنْ" إذِ التَأمُّلُ يَقْتَضِي ذَلِكَ عَلى نَحْوِ قَوْلِ الشاعِرِ:(p-٣٣٣) ؎ وقالَتِ الأقْرابُ لِلْبَطْنِ الحَقِ ∗∗∗.............. وهَذا كُلُّهُ يَجْرِي مَعَ قَوْلِ المُعْتَزِلَةِ، والمَعْنى الَّذِي تَقْتَضِيهِ عِبارَةُ "كُنْ": هو قَدِيمٌ قائِمٌ بِالذاتِ، والوُضُوحُ التامُّ في هَذِهِ المَسْألَةِ يَحْتاجُ أكْثَرَ مِن هَذا البَسْطِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ الآيَةُ، قالَ الرَبِيعُ، والسُدِّيُّ: هم كُفّارُ العَرَبِ، وقَدْ طَلَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أبِي أُمِّيَّةَ وغَيْرُهُ مِنَ النَبِيِّ ﷺ نَحْوَ هَذا، فَنَفى عنهُمُ العِلْمَ لِأنَّهم لا كِتابَ عِنْدَهم ولا اتِّباعُ نُبُوَّةٍ، وقالَ مُجاهِدٌ: هُمُ النَصارى، لِأنَّهُمُ المَذْكُورُونَ في الآيَةِ أوَّلًا، ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُرادُ مَن كانَ عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ اليَهُودِ، لِأنَّ رافِعَ بْنَ حُرَيْمِلَةَ قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أسْمِعْنا كَلامَ اللهِ، وقِيلَ: الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: "لا يَعْلَمُونَ" إلى جَمِيعِ هَذِهِ الوَظائِفِ، لِأنَّ كُلَّهم قالَ هَذِهِ المَقالَةَ أو نَحْوَها، ويَكُونُ ﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ قَوْمُ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ وغَيْرِهِمْ، و"لَوْلا" تَحْضِيضٌ بِمَعْنى هَلّا كَما قالَ الأشْهَبُ بْنُ رُمَيْلَةَ: ؎ تَعُدُّونَ عُقْرَ النِيبِ أفْضَلَ مَجْدِكم ∗∗∗ بَنِي ضَوْطَرى لَوْلا الكَمِيَّ المُقَنَّعا (p-٣٣٤)وَلَيْسَتْ هَذِهِ لَوْلا الَّتِي تُعْطِي مَنعَ الشَيْءِ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ، وفَرَّقَ بَيْنَهُما أنَّها في التَحْضِيضِ لا يَلِيها إلّا الفِعْلُ مُظْهَرًا أو مُقَدَّرًا، وعَلى بابِها في المَنعِ لِلْوُجُوبِ يَلِيها الِابْتِداءُ، وجَرَتِ العادَةُ بِحَذْفِ الخَبَرِ. والآيَةُ هُنا: العَلامَةُ الدالَّةُ وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في لَفْظِها. و﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ اليَهُودُ والنَصارى في قَوْلِ مَن جَعَلَ ﴿الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ كَفّارَ العَرَبِ -وَهُمُ الأُمَمُ السالِفَةُ في قَوْلِ مَن جَعَلَ ﴿الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ كَفّارُ العَرَبِ والنَصارى - وهُمُ اليَهُودُ في قَوْلِ مَن جَعَلَ ﴿الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ العَرَبَ والنَصارى واليَهُودَ، والكافُ الأُولى مِن "كَذَلِكَ" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مُقَدَّرٍ. و"مِثْلَ" نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، ويَصِحُّ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ "قالَ". وتَشابُهُ القُلُوبِ هُنا في طَلَبِ ما لا يَصِحُّ، أو في الكُفْرِ وإنِ اخْتَلَفَتْ ظَواهِرُهم. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ وأبُو حَيْوَةَ: "تَشّابَهَتْ" بِشَدِّ الشِينِ، قالَ أبُو عَمْرٍو الدانِيُّ: وذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ لِأنَّهُ فِعْلٌ ماضٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ بَيَّنّا الآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ لِما تَقَدَّمَ ذِكْرُ الَّذِينَ أضَلَّهُمُ اللهُ حَتّى كَفَرُوا بِالأنْبِياءِ وطَلَبُوا ما لا يَجُوزُ لَهُمْ، أتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الَّذِينَ بَيَّنَ لَهم ما يَنْفَعُ وتَقُومُ بِهِ الحُجَّةُ، لَكِنَّ البَيانَ وقَعَ وتَحَصَّلَ لِلْمُوقِنِينَ، فَلِذَلِكَ خَصَّهم بِالذِكْرِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: قَدْ بَيَّنّا البَيانَ الَّذِي هو خَلْقُ الهُدى، فَكَأنَّ الكَلامَ: قَدْ هَدَيْنا مَن هَدَيْنا. واليَقِينُ إذا اتَّصَفَ بِهِ العِلْمُ خَصَّصَهُ وبَلَغَ بِهِ نِهايَةَ الوِثاقَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: "بَيَّنّا" قَرِينَةٌ تَقْتَضِي أنَّ اليَقِينَ صِفَةٌ لِعَلَمِهِمْ، وقَرِينَةٌ أُخْرى وهي أنَّ الكَلامَ مُدِحَ لَهم. وأمّا اليَقِينُ في اسْتِعْمالِ الفُقَهاءِ إذا لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ العِلْمُ فَإنَّهُ أحَطُّ مِنَ العِلْمِ لِأنَّ العِلْمَ عِنْدَهم مَعْرِفَةُ المَعْلُومِ عَلى ما هو بِهِ، واليَقِينُ مُعْتَقَدٌ يَقَعُ لِلْمُوقِنِ في حَقِّهِ والشَيْءُ عَلى خِلافِ مُعْتَقَدِهِ، ومِثالُ ذَلِكَ تَيَقَّنَ المُقادَةُ ثُبُوتَ الصانِعِ، ومِنهُ قَوْلُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ في المُوَطَّأِ في مَسْألَةِ الحالِفِ عَلى الشَيْءِ يَتَيَقَّنُهُ والشَيْءِ في نَفْسِهِ عَلى (p-٣٣٥)غَيْرِ ذَلِكَ، وأمّا حَقِيقَةُ الأمْرِ فاليَقِينُ هو الأخَصُّ، وهو ما عَلَّمَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ إلّا عَلَيْهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب