الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿حَتّى إذا رَأوا ما يُوعَدُونَ إمّا العَذابَ وإمّا الساعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَن هو شَرٌّ مَكانًا وأضْعَفُ جُنْدًا﴾ [مريم: ٧٥] ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى والباقِياتُ الصالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوابًا وخَيْرٌ مَرَدًّا﴾ ﴿أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وقالَ لأُوتَيَنَّ مالا ووَلَدًا﴾ ﴿أطَّلَعَ الغَيْبَ أمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَحْمَنِ عَهْدًا﴾ ﴿كَلا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ونَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذابِ مَدًّا﴾ ﴿وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ويَأْتِينا فَرْدًا﴾ "حَتّى" في هَذِهِ الآيَةِ حَرْفُ ابْتِداءٍ دَخَلَتْ عَلى جُمْلَةٍ، وفِيها مَعْنى الغايَةِ، و"إذا" (p-٦٣)شَرْطٌ، وجَوابُها في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ﴾ [مريم: ٧٥]، و"الرُؤْيَةُ" رُؤْيَةُ العَيْنِ، و"العَذابَ" و"الساعَةَ" بَدَّلَ مِن "ما" الَّتِي وقَعَتْ عَلَيْها "رَأوا". و"إمّا" هي المُدْخَلَةُ لِلشَّكِّ في أوَّلِ الكَلامِ، والثانِيَةُ عِطْفٌ عَلَيْها. و"العَذابَ" يُرِيدُ بِهِ عَذابَ الدُنْيا ونُصْرَةَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ، و"الجُنْدُ" النُصْرَةُ والقائِمُونَ بِأمْرِ الحَرْبِ، و"شَرٌّ مَكانًا" بِإزاءِ قَوْلِهِمْ: "خَيْرٌ مَقامًا"، و"أضْعَفُ جُنْدًا" بِإزاءِ قَوْلِهِمْ: "أحْسَنُ نَدِيًّا" ولَمّا ذَكَرَ ضَلالَةَ الكُفْرِ، وارْتِباكَهم في الِامْتِحانِ بِنِعَمِ الدُنْيا وعَماهم عَنِ الطَرِيقِ المُسْتَقِيمِ، عَقَّبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ نِعْمَتِهِ عَلى المُؤْمِنِينَ، في أنَّهُ يَزِيدُهم هُدًى في الِارْتِباطِ إلى الأعْمالِ الصالِحَةِ، والمَعْرِفَةِ بِالدَلائِلِ الواضِحَةِ، وزِيادَةِ العِلْمِ دَأبًا، قالَ الطَبَرَيْ عن بَعْضِهِمُ: المَعْنى: بِناسِخِ القُرْآنِ ومَنسُوخِهِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا مِثالٌ. و" الباقِياتُ الصالِحاتُ " إشارَةٌ إلى ذَلِكَ الهُدى الَّذِي يَزِيدُهُمُ اللهُ، وهَذِهِ النِعَمُ عَلى هَؤُلاءِ خَيْرٌ عِنْدَ اللهِ ثَوابًا وخَيْرٌ مَرْجِعًا. والقَوْلُ في زِيادَةِ الهُدى سَهْلٌ بَيِّنُ الوُجُوهِ. و" الباقِياتُ الصالِحاتُ " كُلُّ عَمَلٍ صالِحٍ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ دَرَجَةَ عامِلِهِ، وقالَ الحَسَنُ: هي الفَرائِضُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما: هي الصَلَواتُ الخَمْسُ، ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنَّها الكَلِماتُ المَشْهُوراتُ: سُبْحانَ اللهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ. فَقَدْ قالَ ﷺ لِأبِي الدَرْداءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «خُذْهُنَّ قَبْلَ أنْ يُحالَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُنَّ، فَهُنَّ الباقِياتُ الصالِحاتُ، وهُنَّ مَن كُنُوزِ الجَنَّةِ»، ورُوِيَ (p-٦٤)عنهُ ﷺ أنَّهُ قالَ يَوْمًا: « "خُذُوا جُنَّتَكُمْ"، قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، أمِن عَدُوٍّ حَضَرَ؟ قالَ: "مِنَ النارِ"، قالُوا: ما هي يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: "سُبْحانَ اللهِ، والحَمْدُ لِلَّهِ، ولا إلَهَ إلّا اللهُ، واللهُ أكْبَرُ، وهُنَّ الباقِياتُ الصالِحاتُ»، وكانَ أبُو الدَرْداءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ إذا ذَكَرَ هَذا الحَدِيثَ يَقُولُ: «لَأُهَلِّلَنَّ ولَأُكَبِرَنَّ اللهَ ولَأُسَبِّحَنَّهُ حَتّى إذا رَآنِي الجاهِلُ ظَنَّنِي مَجْنُونًا». قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَرَأيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا﴾. الفاءُ في قَوْلِهِ: " أفَرَأيْتَ " عاطِفَةٌ بَعْدَ ألْفِ الِاسْتِفْهامِ، وهي عاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ، و ﴿الَّذِي كَفَرَ﴾ يَعْنِي بِهِ العاصِيَ بْنَ وائِلٍ السَهْمَيَّ، قالَهُ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ، وخَبَرَهُ «أنَّ خَبّابَ بْنَ الأرَتِّ كانَ قَيْنًا في الجاهِلِيَّةِ، فَعَمِلَ لَهُ عَمَلًا، واجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَهُ دَيْنٌ، فَجاءَهُ يَتَقاضاهُ، فَقالَ لَهُ العاصِي بْنُ وائِلٍ: لا أقْضِيكَ حَتّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقالَ خَبّابٌ: لا أكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ - حَتّى يُمِيتُكَ اللهُ ثُمْ يَبْعَثُكَ، قالَ العاصِي: أو مَبْعُوثٌ أنا بَعْدَ المَوْتِ؟ قالَ خَبّابٌ: نَعَمْ، قالَ: فَإذا كانَ ذَلِكَ فَسَيَكُونُ لِي مالٌ ووَلَدٌ، وعِنْدَ ذَلِكَ أقْضِيكَ دَيْنَكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في ذَلِكَ». وقالَ الحَسَنُ: نَزَلَتِ الآيَةُ في الوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وقَدْ كانَتْ لِلْوَلِيدِ أيْضًا أقْوالٌ تُشْبِهُ هَذا الغَرَضَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "وَوَلَدًا" عَلى مَعْنى اسْمِ الجِنْسِ، بِفَتْحِ الواوِ واللامِ، (p-٦٥)وَكَذَلِكَ في سائِرٍ ما في القُرْآنِ، إلّا في سُورَةِ نُوحٍ فَإنَّهُما قَرَأا بِضَمِّ الواوِ وسُكُونِ اللامِ. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمْ، وابْنُ عامِرٍ بِفَتْحِ الواوِ في كُلِّ القُرْآنِ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "وَوُلْدًا" بِضَمِّ الواوِ وسُكُونِ اللامِ، وكَذَلِكَ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "وِلْدًا" بِكَسْرِ الواوِ وسُكُونِ اللامِ، واخْتَلَفَ مَعَ ضَمِّ الواوِ - فَقالَ بَعْضُهُمْ: هو جَمْعُ ولَدٍ كَأسَدٍ وأُسْدٍ واحْتَجُّوا بِقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ فَلَقَدْ رَأيْتُ مُعاشِرًا قَدْ ثَمَّرُوا مالًا ووُلْدًا وقالَ بَعْضُهُمْ: هو مُفْرَدٌ، واحْتَجُّوا بِقَوْلِ الشاعِرِ: ؎ فَلَيْتَ فُلانًا كانَ في بَطْنِ أُمِّهِ ∗∗∗ ولَيْتَ فُلانًا كانَ وُلْدَ حِمارِ قالَ أبُو عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ: وفي قِراءَةِ حَمْزَةَ والكِسائِيِّ ما كانَ مُفْرَدًا قُصِدَ بِهِ المُفْرَدُ، وما كانَ مِنهُ جَمْعًا قُصِدَ الجَمْعُ، وقالَ الأخْفَشُ: الوَلَدُ: الِابْنُ، والوُلْدُ: الأهْلُ والوالِدُ، وقالَ غَيْرُهُ: والوُلْدُ: بَطْنُ الَّذِي هو مِنهُ، حَكاهُ أبُو عَلِيٍّ في الحُجَّةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أطَّلَعَ الغَيْبَ﴾ تَوْقِيفٌ، والألِفُ لِلِاسْتِفْهامِ، وحُذِفَتْ في الوَصْلِ لِلِاسْتِغْناءِ عنها، و"اتِّخاذُ العُهَدِ" مَعْناهُ: بِالإيمانِ والأعْمالِ الصالِحَةِ. و"كَلّا" زَجْرٌ ورَدْعٌ، ثُمْ أخْبَرَ تَعالى أنَّ قَوْلَ هَذا الكافِرِ سَيَكْتُبُ، عَلى مَعْنى حِفْظِهِ عَلَيْهِ ومُعاقَبَتِهِ بِهِ، وقَرَأ عاصِمْ، والأعْمَشُ: "سَيُكْتَبُ" بِياءٍ مَضْمُومَةٍ، وقَرَأ: "سَنَكْتُبُ" بِالنُونِ أبُو (p-٦٦)عَمْرٍو، والحُسْنُ، وعِيسى. و"مَدُّ العَذابِ" هو إطالَتُهُ وتَعْظِيمُهُ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما يَقُولُ﴾ أيْ: هَذِهِ الأشْياءُ الَّتِي سَمّاها، وقالَ إنَّهُ يُؤْتاها في الآخِرَةِ يَرِثُ اللهُ ما لَهُ مِنها في الدُنْيا بِإهْلاكِهِ وتَرْكِهِ لَها، فالوِراثَةُ مُسْتَعارَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ خَيْبَتَهُ في الآخِرَةِ كَوِراثَةِ ما أمَّلَ. وفي حِرَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَنَرِثُهُ ما عِنْدَهُ"، وقالَ النُحاسُ: "وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ" مَعْناهُ: نَحْفَظُهُ عَلَيْهِ لِنُعاقِبَهُ، ومِنهُ قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «العُلَماءُ ورَثَةُ الأنْبِياءِ»، أيْ: حَفَظَةُ ما قالُوا. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: فَكَأنَّ هَذا المُجْرِمْ يُورِثُ هَذِهِ المَقالَةَ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَأْتِينا فَرْدًا﴾ يَتَضَمَّنُ ذِلَّتَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب